TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > عمارة “ثانوية الزعيم” للبنات في الصويرة: المكان، بصفته شرطاً تصميمياً

عمارة “ثانوية الزعيم” للبنات في الصويرة: المكان، بصفته شرطاً تصميمياً

نشر في: 4 يوليو, 2014: 09:01 م

نزعم ان "تابلوجية" عمارة المدارس في الممارسة المعمارية العراقية، لم تحظ باهتمام كافٍ، بما يعادل خصوصية هذا النوع من المنتج التصميمي، وبما يكافئ تأثيراته الكبرى على سير العملية التربوية والتعليمية وعلى مزاج التلاميذ: شاغلي تلك الفضاءات المصممة. وليس

نزعم ان "تابلوجية" عمارة المدارس في الممارسة المعمارية العراقية، لم تحظ باهتمام كافٍ، بما يعادل خصوصية هذا النوع من المنتج التصميمي، وبما يكافئ تأثيراته الكبرى على سير العملية التربوية والتعليمية وعلى مزاج التلاميذ: شاغلي تلك الفضاءات المصممة.

وليس من ثمة مسوغ مقنع لهذه الحالة المؤسفة، التي نراها، ايضاً، مجحفة بحق شاغليها الآن: رجال العراق القادمين، الذي يعوّل الوطن كثيرا في نهضته وتقدمه عليهم مستقبلاً. فمعظم مباني المدارس الذي ظل "اميجها" راسخاً في مخيلة كثر من شاغليها، كان أسلوب عمارتها، في الغالب الأعم، يعود الى مقاربات قديمة عفا عليها الزمن، في حين، فقط، القليل منها دنت لغتها التصميمية من لغة العصر وانشغالاته المعنية في تكريس عمارة الحداثة. بمعنى آخر، ثمة محاولات جادة، رغم شحتها و"فردانيتها"، سعت وراء تغيير سلوك "التقاليد" المعمارية العراقية، الغارقة في ولعها "الماضوي"، والمبتعدة كثيرا عن توظيفات معطى عمارة الحداثة. ليس المكان هنا، يسمح كثيرا للاستطراد في ذكر أمثلة كثيرة لمبانٍ تعاطت مع هذه الحالة. لكننا، نشير بعجالة الى بعضها، هي التي مثلت تصاميمها خيرة الأمثلة المعمارية في هذا الخصوص، إنها من دون شك "كلية فيصل" في الأعظمية (1935)، المعمار بدري قدح، و"الثانوية الجعفرية" (1946) المعمار: جعفر علاوي، و"مدرسة الامريكان" في المنصور (1956) المعمارة الين الأيوبي، و"ثانوية الحريري" للبنات (1953) المعمار جعفر علاوي، و"مكتبة الطفل العربي ومدرسة الموسيقى والباليه" (1964) المعمار هشام منير، و"المدرسة الدولية" في الكرخ (1976)، المعمار هنرى زفوبودا وغير ذلك من الأبنية المدرسية الأخرى. بيد ان عمارة "ثانوية الزعيم" للبنات في الصويرة (1961)، التي اعدها واحدة من اجمل المباني المدرسية الى أنجزتها الممارسة المعمارية العراقية في العقود الأخيرة، لا تزال تمثل شاهدا مميزا ونادرا في منتج العمارة المدرسية العراقية، ان كان ذلك لجهة التكوين ام لخاصية نوعية المفردات التصميمية الموظفة في لغتها المعمارية.
يحضرني الآن، في هذا المقام، ما كتبته يوما ما، عن عمارة قحطان عوني ومنجزه التصميمي. مذكرا بان ما يسم عمارة قحطان عوني ليس تنوع الأساليب التكوينية، التي اشتهر بها، وانما شيئا اخر؛ شيء متعلق بقرار "خروج" عمارته من بغداد باتجاه مدن الضواحي، لتزرع هناك عمارة الحداثة وتنشر "نكهتها" العبقة غير المألوفة في تلك البيئات المبنية البعيدة. وإذ أشير الى أهمية هذه الناحية ، فإنني اذكرّ بان معظم النشاط المعماري لغالبية المعماريين العراقيين كانت تستحوذ مدينة بغداد عليه، "بتواطؤ" غير معلن من ان المبنى المشيد في العاصمة يمتلك بريقا لا يتوفر لمثيله في مناطق الضواحي النائية . وأيا يكن الأمر، فإننا إزاء نشاط مميز ومتنوع اتصف به مكتب قحطان عوني لجهة اهتمامه في توسيع "جغرافية" عمارة الحداثة بالعراق وتوطين نماذجها في مناطق مختلفة من البلاد. وتدلل تصاميمه المنفذة وغير المنفذة هناك على مسعى المعمار الجدي في تكريس هذه النزعة التصميمة في الممارسة المعمارية المحلية، ما اكسب تصاميمه غنى مضافاً متأتيا من "التغذية الاسترجاعية" Feedback التي تتيحها خصوصية المواقع المميزة التي يصمم لها المعمار. لنتذكر "عمارة مبنى بلدية النجف" بكتلته المعبرة، ومشروع مبنى "المغتسل" في نفس المدينة الحافلة عمارته برموز المكان، وكذلك مبنى دائرة الإدارة المحلية في الكوت، وكازينو كربلاء وروضة في البصرة وبهو البلدية في الناصرية والفندق السياحي بالصويرة ومثله في الكوت، وغيرها من الأبنية العديدة التي أغنت البيئة المبنية المحلية وباتت عمارتها نماذج مبنية قابلة للاحتذاء والتعلمّ والمحاكاة . لقد اتسمت مقاربة عمارة جميع تلك المباني على صفة مشتركة هي صفة الحداثة، المعبر عنها باستخدام المواد والأساليب الإنشائية الجديدة وبتوظيف تكوينات معمارية مستقاة من أفكار طليعية وتطبيقات معمارية جادة. لكن عمارة مبنى ثانوية الزعيم للبنات في الصويرة (1961) تظل الحدث المميز في مجمل خطاب "عمارة الضواحي" لقحطان عوني نظرا لعمارتها الفريدة التي تغوي بقراءة نقدية، قراءة خاصة على ما يسمى "بالنقد التناصي"، فضلا على متابعتي الشخصية ومعايشتي البصرية الدائمة لها (كوني احد سكنة المنطقة)؛ وكذلك للدلالات المتعددة المقترنة بذلك المبنى الحصيف. فالمبنى، اولاً، مشيد على ارض تعود ملكيتها الى عائلة الشهيد عبد الكريم قاسم، احد مؤسسي الجمهورية العراقية وأول رئيس وزراء فيها، هو الذي اهدى الأرض إياها لأغراض البناء، وهي حادثة نادرة في تاريخ العراق ، وقد كانت الأولى من نوعها وربما ستظل الأخيرة. اذ لم نسمع، لا سابقاً ولاحقاً، بان حاكما عراقيا "وهب" أملاكه او جزءا منها للصالح العام. ما شاهدناه، وما قرأناه، ونسمع به دوما هو "نهب" الحكام للأملاك العامة. وهي على كل حال حادثة غاصة بدلالاتها الرمزية، او "بسيميوطيقيتها" (بلغة أشقائنا المغاربة). والدلالة الاخرى، هي ان يكون المشروع المقترح: "مدرسة" ومدرسة الى "البنات" تحديداً؛ في وقت يروّج الآن وعلى نطاق واسع من قبل ممثلي الإسلام السياسي الظلامي بوجوب غلق هذه المؤسسات التعليمية وخصوصا المخصصة منها الى "البنات"! وتبقى الدلالة الثالثة التي تميزت بها "ثانوية الصويرة"، ذات مغزى مباشر بكون عمارتها تجسد قيمّ الحداثة المعمارية في ارض بكر لا تزال " تعتاش " معماريا على أساليب وقيم وتقاليد بنائية قديمة تعود الى زمن ماقبل "سايكس – بيكو "، بوقت طويل ... وطويل جدا!!.
يتوق معمار "ثانوية الصويرة" ان يكون مبناه نتيجة إعادة قراءة مبادئ العمارة الحديثة الخمسة التي حددها "لو كوربوزيه" يوما ما. لكن تلك القراءة تظل مسكونة بالنَفَس والمزاج المحلين، او في الأصح النفس والمزاج "القحطاني". ثمة رفع جزئي للكتلة، وثمة نوافذ شريطية، فضلا على حضور المخطط الحر، وهناك جدران ستائرية، ما أتاح الى تكوين واجهة حرة، ناهيك الى وجود مفردة السقف الأفقي. ثمة وفرة كذلك في استخدام المواد الجديدة، الى جنب أساليب تركيبية حديثة. لكن الأساس في عمارة المدرسة هو نزعة التصادي او بالأحرى التناص، مع محاولات معمارية تجد اصولها في تطبيقات منجز عمارة الحداثة العالمي، لجهة تمكين المعمار ومساعدته في اصطفاء مفردات الحل التكويني لعمارة المدرسة. ويبهرني في هذا المجال استذكار مصمم المدرسة لواجهة المبنى السكني عند "بولفار نوفينسكي" في موسكو (1930) ، الذي عده "لوكوربوزيه" وقتها المنجز الحقيقي لعمارة الحداثة، واحدى كشوفاتها المتميزة. لا اعلم هل ان مصمم المدرسة سعى الى تفعيل اجراءاته التناصية مع هذا المبنى تحديدا، ام مع " النسخ " المحاكية لواجهاته، التي قد تكون تأثر بها معماريون كثر. لكني أرى ثمة تشابهاً كبيرا في أسلوب تنطيق الواجهة الغربية لثانوية الصويرة ونوعية المفردات التكوينية للمبنى الموسكوفي. اقول، هذا، مع إن احد زملائي، الذين اعتز بآرائهم، يرى ان الأمر غير ذلك الذي ذهبت اليه. زاعماً، إن قحطاناً، على الأرجح، تأثر، فيما اذا كان من ثمة تأثير حاصل، مع النسخ المحاكية؛ لافتاً وجهة نظري نحو أعمال "الين جودت الأيوبي"، ولا سيما عملها الفذ في مشغل الهلال الأحمر ببغداد (1949)، والذي قد يكون قحطان تأثر به اكثر بكثير من ما ذهبت اليه. وايا يكن، فان القراءة التناصية لعمارة ثانوية الصويرة المترعة بالمرجعيات المختلفة، تجعل منها حدثا تصميما ً ذا أهمية استثنائية في دلالاته المتعددة، والتي ما انفكت تعتبر مفخرة تصميمية لعموم الممارسة المعمارية المحلية، التي لم يتسن َ لمتابعيها الاطلاع الواسع عن منجزاتها الحقيقية.
يعي معمار المدرسة أهمية <المكان> الذي يصمم له. وهو لهذا يعتني به اعتناءً مضافاً، انطلاقاً من تلك الأهمية. وهذا الاهتمام يتمظهر في الاقل بناحيتين: اولهما، الجانب المعنوي، ومن ثم الخصوصية الجغرافية. من هنا مسعاه الواضح في توظيف هاتين الناحيتين في اجتراح "فورم" المبنى المنتظر. يعرف المصمم، ايضاً، ان المعيار المعنوي/ الرمزي، يتعين ان يكون عالياً وراسخاً تكوينياً. فأرض موقع المبنى مهدى للدولة، من قبل صاحبها، الذي يشغل مكانة مرموقة في السلم الاداري للدولة ذاتها. وهو امر كاف لوحده لجعل الجانب الرمزي حاضراً بقوة في التصميم. وليس هنا، افضل من ان تقوم "اللغة التصميمية" باداء هذا الدور المناط بها، اللغة المترعة بالحداثة والمثيرة للدهشة، والساعية وراء ايجاد "قطيعة"، تعلن من خلالها عن بزوغ ذائقة جمالية، تكفل للعمل المجترح تكريس جديده، وتضفي اناقة وترفاً على أنساق البيئة المبنية. هذا بالإضافة الى تمكين العمارة لئن تحضر حضورا بهياً في المشهد البنائي المحلي. وهو اذ يلفت النظر الى الخاصية الجغرافية لأهمية الموقع المختار، فانه يطمح ان يكون ذلك عاملا اضافيا في تأسيس نوعية العمارة لمبناه. فالاتجاه الجغرافي الغالب والمهيمن لمبنى المدرسة هو، في العموم، شرق- غرب. وعليه ان يأخذ ذلك في نظر الاعتبار، خصوصاً وإن الشرط المناخي معمارياً، كان وقتذاك (ونحن نتحدث عن اوائل الستينات)، العنصر الأكثر رواجاً والاكثر توظيفاً في اجتراح تنويع الواجهات، وتحديد معالجاتها التصميمية.
ثمة، اذاً، واجهتان أساسيتان، هما عماد المعالجة التصميمية للمبنى والمجال المناسب لتنطيق مفردات لغته المعمارية. وهما الواجهة الشرقية/ الامامية، والغربية/ الخلفية. اما الواجهتان القصيرتان: الجنوبية والشمالية، فقد نأى المصمم بنفسه عن الاهتمام بهما، فجاءتا مصمتين، تغلقان وتوقفان انسيابية "مجرى" التشكيلات الفنية الغاصة بهما كلتا الواجهتين الاساسيتين. يصطفي المعمار مفردات تشكيلية مقننة لواجهيته الاثنتين. واذ اعتمد على حضور بليغ في سيطرة وسيادة الخطوط الأفقية والمساحات المقفلة الممتدة بالواجهة الغربية، والتي تقلل من "كشوفية" الفراغات المفتوحة، انطلاقاً من حرصه في تقليل سلبيات الاتجاه الغربي مناخياً، فانه بادر الى استخدام عناصر زخرفية خرسانية متنوعة، يخلق "جدار" تجميعاتها، القيمة الجمالية الأساسية لهذه الواجهة. ولئن اقرّ المعمار بضرورة إثراء هذه الواجهة، التى عدها رئيسية، فانه اقترح عناصر آخرى تعزز من شأن الحضور "الاستطيقي" لهذه الواجهة، وتضيف لها رقة وعذوبة. وذلك من خلال محاولته إبراز كتلة السلم الرابط بين الطوابق، وأسلوب معالجته الخاصة والمختلفة عن سياق تعبيرية الواجهة، والتى أُريد بها تفعيل عنصر "التضاد" وتشغيله جمالياً. ثمة عنصر آخر، يحضر في "سرديات" الواجهة الرئيسية، وهو فضاء "قاعة المدرسة"، والمسقف بقبو برميلي، يعمل وجوده الفيزياوي الواضح والمختلف، في تكريس مهمة تنويع مفردات الواجهة، وبالتالي زيادة قيمتها الجمالية. جدير بالإشارة، بان كتلة المدرسة ارتبطت، بنفق تحت الارض، مع مبنى المكتبة الواقعة على الجانب الآخر من الشارع الذي يفصلها عن المدرسة. وقد شكلا المدرسة مع مبنى المكتبة "مجمعاً" تعليميا وثقافياً، اغنى البيئة "التصويرية" وكرس من حضور معالم التعليم والثقافة فيها. وهي المهمة الرئيسية التى توخي لتحقيقها "واهب" الارض، وصاحب قرار تشييد المدرسة؛ هي التى وجدت انعكاسا ملائما لها في عمارة المنشأ المدروس واسلوب تنطيق مفرداته.
والمعمار "قحطان عبد الله عوني" المولود في 1926 ببغداد، الذي فجع الوسط المعماري والمهني العراقي بوفاته المبكرة والمفاجئة سنة 1972 (اثر نوبة قلبية)، درس العمارة في بيركلي بالولايات المتحدة الامريكية مابين (1946-51)، ثم اسس مكتبا معماريا خاصا به مع زملاء معماريين آخرين عند عودته الى الوطن عام 1952. صمم مبان ذات وظائف متنوعة، في مناطق مختلفة من العراق، تعد، في رأيي، من خيرة ما انتجه المنجز المعماري العراقي الحداثي. صمم مستشفى سلمان فائق (1956)، بالعلوية ببغداد، والجامعة المستنصرية (1963)، ومبنى ناجي جواد الساعاتي (1962) في شارع السعدون ببغداد، ومبنى بلدية النجف (1964)، وفندق سياحي في الكوت (1964)، وبناية الآلات الحاسبة لمصلحة الكهرباء الوطنية (1965)،في الميدان ببغداد، والقسم الداخلي للبنات (1967)، في باب المعظم، ومبنى التأمين الوطنية (1967) عند ساحة النافورة، ببغداد، ودارة المعمار (1968)، في الوزيرية (أزيلت مع الاسف)، والمبنى الذي شغلته السفارة السعودية (1970)، في المنصور (ازيل، هو الآخر، مع الاسف الشديد)، ودار سكنية (1970) في المنصور (اتينا، مرة، على ذكرها في هذه الزاوية، وهي الآن في مراحل التهديم، مع الاسف الشديد!)، وغيرها الكثير من المباني الاخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram