بعض الوجوه نألفها لتصبح جزءاً من حياتنا اليومية، وفي زمن الخيبات الحياتية والسياسية تصبح هذه الوجوه امتداداً للبيت او الشارع وحتى مكان العمل، .. وكان محمود النمر واحدا من هذه الوجوه الأليفة على النفس والمكان .تعلق محمود النمر القادم من ميسان ، بالعاص
بعض الوجوه نألفها لتصبح جزءاً من حياتنا اليومية، وفي زمن الخيبات الحياتية والسياسية تصبح هذه الوجوه امتداداً للبيت او الشارع وحتى مكان العمل، .. وكان محمود النمر واحدا من هذه الوجوه الأليفة على النفس والمكان .
تعلق محمود النمر القادم من ميسان ، بالعاصمة بغداد وسكر بسحرها وخمرها، وصارت أمه التي تمنحه الأصدقاء والكلمات والعطايا، تلفظه حاناتها في أواخر الليل وجيوبه مليئة بالأوراق والشعر.. والأهم القصص العجيبة ومزيد من الطرائف، كل من عرفه يقول انه شق طريقه وسار فيه ، وان لا أحد يستطيع ان يثنيه عن السير فيه، لا الشتيمة ولا إغراء المال ولا الوظيفة ولا الشهرة ولا المجد، كل هذا لا يعني شيئا ذا قيمة بالنسبة إليه ، وهو الذي يريد ان يحيا منسجما مع نفسه ، يرتفع ويسقط ، يترنح تارة ، وتارة يسير.. واثق الخطوة، فالخال النمر كما يحب أصدقاؤه ان ينادوه اعتاد ان يخرج في أواخر الليل يترنح يمينا فيسنده جدار ويترنح شمالا فلا يسنده شيء.. يتعثر فلا يكبو ، ثم يتعثر وهو يردد أبيات اليوناني كفافي:
لن تجد وطناً جديداً،
لن تجد شاطئاً آخر
هذه المدينة سوف تلاحقك أبداً
. سوف تمشي الشوارع نفسها،
وتشيخ في الحارات نفسها،
وتشيب في هذه البيوت نفسها،
سوف تنتهي دائما إلى هذه المدينة
لا تأمل بأشياء في أي مكان آخر
لا سفينة لك ولا طريق
مرَّ محمود النمر في رحلته الحياتية بوجوه عدة أحبها ووجوه عدة تعمَّد ان يشاكسها، مرة سألته لماذا تشاكس الآخرين بهذه القسوة؟ قال : "لانهم غارقون في الرتابة، غارقون في التقليد، يكتبون ولا يأتون بصحيح العبارة ، يصفون الكلمات ولا ينقلون المشاعر" . وفي لحظة صحو همس لي: أريد أن يدخل الشعر نفسي فيبعث فيها القلق او الدهشة او الوحشة او الحزن او النشوة، أريد ان يكون جزءاً مني، واحداً من أبنائي .. وأتمنى أن لا يكون ولداً عاقاً يعذبني مثل أولادي "
يكتب الشاعر السريالي بيير ريفيردي: "ولد فيتوفى...ليس هناك من أحداث ليس هناك من تواريخ ، لاشيء وهذا أمر رائع "
"خالي" ، الكلمة التي لازمت محمود النمر طوال حياته مثل الموت الذي كان في مواجهته دائما مهما حاول الإفلات منه ، كان يتسلل إليه من شوارع المدينة بقناع مرض ، اوشظية مجهولة النسب ، او معركة طائشة تفسد مناخ الحياة ، وتحوله الى قصيدة مسربلة بالفجيعة مثل قصائده التي كان يتمنى ان يوزعها على الأصدقاء المقربين جدا فقط :
الموت ظل بلا منازع
هل يستقل الموت طيفا آخر نحو النهاية
هل يبلغ الطرفان شكلا آخر للعيش
حتى نستتب على أديم للخلود
هذا الذي يمشي إلى الأرواح منتفخ الخدود
هذا الذي لا يسترد سوى بقايا شكلها جسداً
ويرحل نحو أردية قصار
لا خوف من هذا النحيل اذا يواجهنا كما الفرسان
نطعن بعضنا فوق الخيول
لكنه ضحل يفوت الى الخديعة
ما قيمة الجبناء في هذا العبور بلا نزاع
وأنا أحث الخطى الى شارع المتنبي سألمح حتما ظل " الخال " محمود النمر يسير أمامي، ألمح ظهر رجل يسير، يحمل أوراقه تحت إبطه ، فيما قدماه تدقان على الرصيف إيقاعاً متناسقاً مع همسات صوته. سأظل اشعر بالحنان الذي احمله لهذا الصديق الذي امتلأت حياته بالمسرات والأفراح الحزينة وببراءة الحياة التي كان يحياها وبمدى تلقائية الكلمات التي كانت تخرج منه، مرددا كلمات سولجنستين :
" يا أخوتي أرجوكم لا تموتوا، ابقوا فوق هذه الأرض، لان موتانا كثيرون ".
جميع التعليقات 1
خالد السلطاني
شكرا، ايها العزيز، استاذ علي، على كلمتك المؤثرة والصادقة بحق صديقنا الطيب الخال محمود. الرحمة الواسعة له. ولك ايها الصديق الوفي خالص الامتنان.