مساء يوم غزو العراق 2003، تساءل جوشكا فيشر Joschka Fischer، وزير خارجية ألمانيا: "أي نوع من النظام العالمي نريد؟" ظل هذا السؤال في عقول الأوربيين مثل شارة ضوئية في مفترق الطرق. فقد أضاء الاختلافات على جانبي الأطلسي. وحتى اليوم، لا يبدو ان الأمريكيي
مساء يوم غزو العراق 2003، تساءل جوشكا فيشر Joschka Fischer، وزير خارجية ألمانيا: "أي نوع من النظام العالمي نريد؟"
ظل هذا السؤال في عقول الأوربيين مثل شارة ضوئية في مفترق الطرق. فقد أضاء الاختلافات على جانبي الأطلسي. وحتى اليوم، لا يبدو ان الأمريكيين قد حدّدوا الإجابة عن ذلك السؤال.وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، دومنيك فيليبن، وضع السؤال بصيغة أخرى، والكلام حتى الآن لروبرت كاجان، هي صيغة أقرب للثقافية منها للحرفة السياسية، فالمسألة بالنسبة له ليست غزو العراق ولكن: "هناك رؤيتان للعالم two visions of the world"..
إذن الخلافات على غزو العراق ليست سياسية فقط، الخلافات أصلاً على أسس العمل الدولي. الناس على جانبي الأطلسي يعيشون ضمن ستراتيجيات ورؤى سياسية مختلفة ولم يعد عالمهم موحّداً. ليس هناك، كما نتوهم، "كيان" للعالم الغربي. هناك "شعبان" يعيشان على ارضين بينهما المحيط الأطلسي وهما يختلفان في الستراتيجيات والأفكار.
ونحن لا نريد تصديق الصحافة الأمريكية ذات النزوع التجاري المؤسساتي. الحقيقة التي لا يعلنها الإعلام ان الشعوب لا مصلحة لها في الحروب- هذا يخالف الصحافة الأمريكية في ان ثمانين في المائة من الأمريكيين يوافقون على الحرب ونصف الأوربيين راضون بها.."
كما ان إعلان الحرب لم يتم تلبية لطلب أي من الأمريكيين او الأوربيين اما قول الصحافة الأمريكية وكوادرها بان الحرب تحقق العدالة، فنحن بحاجة الى الابتسام أحياناً.
الحروب تعلن بإرادة السياسيين والقادة العسكريين لا في حرب الخليج حسب ولكن في كل الحروب ومن كل التدخلات الأمريكية وكما فعلته بريطانيا أيضاً وفرنسا في بقاع من العالم.
ما يهمنا ان هذا الاختلاف بين أوربا والولايات المتحدة أدّى ويؤدي الى عدم رضا الأمريكيين والأوربيين على القانون الدولي على المؤسسات الدولية في إضفاء الشرعية على الأحداث. في الحرب على العراق حصل أول تجاوز ضخم على القرار الدولي، وعلى الأمم المتحدة وعلى الرأي العام !
هنا سمع العالم أول مرة التصريح الخطير لجيرهارد شرويدر ، المستشار الألماني:
"أمريكا مختلفة عن أوربا"!
هنا يبدأ موضوعنا. ما الذي سيؤدي له هذا الاختلاف وهذا التفرد في القرار من جانب هائل القوة لا يحفل بالدول الأخرى؟ العالم تمثله الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وهذان أُطيح بهما عملياً!
في هذا الوقت صارت أوروبا تركز اهتمامها بأوروبا وأمريكا وبكافة بلدان العالم. حرب باردة جديدة نشأت من غير مكاشفة حادة. أوروبا الآن في طريق وأمريكا في طريق. انفرطت، ربما للأبد، العقود الستراتيجية المشتركة. صار السؤال: هل يظل الغرب غرباً؟
لم يكن احد يفكر بمثل هذا قبل سنوات أين هذا من نبوءة فوكوياما بعيش الديمقراطيات الليبرالية في نهاية التاريخ بانسجام ولن تمتلك أي منها موقفاً للإضرار بشرعية الاخرى؟
صار واضحاً ان الصراعات الجديدة قد تفصل دول الغرب الواحدة عن الأخرى "أوربا قديمة" يقول الرئيس الأمريكي!
صارت غالبية الدول الأوربية وشعوبها تراودها الشكوك بشرعية المجال الذي تتحرك فيه قوة الولايات المتحدة، وبشرعية إجراءاتها، كما بشرعية قيادتها للعالم. والولايات المتحدة، هي أيضاً تدرك الحساسية الجديدة منها. حلم فوكوياما تحول الى حقيقة سوداء. الناس اليوم لا يريدون تصديق تزعّم الولايات المتحدة للعالم، بهذه الخشونة!
كانت للأوربيين فرصة تساؤل للولايات المتحدة عمّا فعلته في فيتنام، أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى. لم يعد التساؤل ذا جدوى عملية. تغيّر العالم السياسي. الأوربيون وحدهم لا يفعلون شيئاً. الولايات المتحدة تكسب مشروعيتها او تصنعها وإذا لم تحصل عليها، تتصرف من دونها! هذا مدى من السلطة كبير. لم يكن للأوروبيين مثلها في حروبهم في الشرق الأوسط او جنوب آسيا او جنوب الأطلسي..
الولايات المتحدة صانعة حجج كبيرة تحت عنوانات ضخمة تزويقية مثل الدفاع عن النفس وتيسير الديمقراطية للشعوب التي ينهكها الطغيان الدكتاتوري وحماية حقوق الإنسان في العالم...الخ التعابير.
روسيا اليوم تستنكر مثل هذه الأعمال وتمارسها! والحجة ايضاً الدفاع عن النفس او عن الحدود الوطنية والمصالح.. المهم ان كسراً لقرارات الأمم المتحدة يحدث بين حين وآخر وقد شهدنا أمثلة في العراق وأفغانستان وجورجيا وأوكرانيا، وقبلها جزر الفوكلاند التي تراها الأرجنتين جزرها! فما هو مصير الأمم المتحدة إذا استمر اكتساب المشروعية منها عبر المصالح، او من دونها؟
أحداث 11 سبتمر أسست خوفاً كبيراً للأوربيين. وهذا الخوف قد يقع عليهم. منح الولايات المتحدة مشروعية جديدة تعتمد فيها أحداثاً واقعية. صارت الدول الأوربية ودول أخرى في العالم تقدم إسناداً ضد مخاطر قد تطالها. إذن بعض من أوروبا سيسهم في تجاوز الأمم المتحدة، في عدم الحاجة لكسب المشروعية او لسهولة تحقيقها. والناتو تحركه ضرورات أمن الولايات المتحدة وأمن أوروبا- الذي يشكل من ناحية أخرى خلفية لستراتيجيات الولايات المتحدة، استعداداً للمستقبل!
بدأ التصدّع. بدأ الإرباك ولم يتوقف الاحتجاج. فرنسا تسعى لأوروبا متحدة لها رأي. روسيا تسعى لأن يكون لها رأي. الأمم المتحدة ما عادت لها إمكانية عملية لردع الولايات المتحدة او بريطانيا او روسيا. الأمم المتحدة اليوم تقترب لأن تكون استشارية دولية لمنح التأييد، لاستقبال الشكاوى. هي تقترب لان تكون تأسيساً معنوياً. تأييدها للفعل الحربي يقلل عن الفاعل لعنات الرب...
للمحللين السياسيين جملة أفكار في هذا الشأن لكنهم لا يختلفون في ان القوة المتمادية يمكن ان تجهض أي قرار للأمم المتحدة او تعدّد اتجاهاته. وما دامت قوة الولايات المتحدة الاقتصادية متصاعدة وتطور أسلحة التدمير مستمر والتقاطعات في العالم تزداد وإثنيات الشعوب وأعراقها ممكنة الاستغلال....، فهذا يعني اننا دائما بانتظار غزو او تدخل عسكري او احتلال او ضربات جوية تأديبية للخصوم.
لكن للمفكرين والمثقفين ونشطاء حقوق الإنسان قناعة بإمكان العمل الفكري والثقافي. وتجمعات الأساتذة ورجال القانون والفنانين والكتاب والأحزاب ومنظمات المجتمعات المدنية في العالم يمكن أن تشكل قوة ردع وان تعيد تركيبة العقل الحاكم وتعدل المنظور السياسي بجهد تنويري متواصل وبإثارة رفض شعبي واسع يشكل اعتراضات حادة وفعلاً يومياً مناهضاً في الشارع. لقد تطورت هذه القناعة الى ان منظمة ثقافية مدنية واسعة يمكن ان تسهم في اتجاهين: اتجاه يؤثر في الفكر السياسي واتجاه في تنمية قوة الاعتراض على خرق الأمن البشري وتعريض الأرض للكوارث. قوة منظمة عالمية مثل هذه قادرة على ان تقوض المؤسسات التجارية بمقاطعة بضائعها ومنتجاتها وغلق أسواق البلد الذي لا يحترم العالم!