ليست وظيفتنا الجزع. لكن هذا لا يسلب متعة ان نفهم المزيد. اننا لسنا مجرد جيل شاهد على حروب كثيرة، فنحن كائنات محتجزة داخل زمان يكاد يتوقف. مرة سألني كاتب اجنبي عن الهموم التي نكتب عنها في العراق، فواجهت صعوبة في العثور على رد مناسب. قلت له اننا مجبرون ان نتفرج من داخل زماننا المشلول، على زمانكم وهو يتحرك. لا استطيع مثلاً ان اقول لك ان جيلي عاش ثلاثين او اربعين سنة، مثل باقي نظرائنا في صقلية او المالديف او حتى رام الله، فنحن مجموعة بشرية اعمارنا هي مجرد مسافة بين دبابتين، وكلما تحركت الدروع والسحب الملبدة بالبارود والحرائق، نجحنا في تصور تلك المسافة التي هي عمر هذا الجيل. لا يوجد شيء نقيس به السنوات، الا حركة الموت وأسبابه.
ليس تشاؤماً يؤدي الى العجز والوقوف مكتوفي الايدي، لكنها محاولة اخرى لتفسير اننا محتجزون، لا في مسافة بين دبابتين، بل داخل اسطوانة مدفع، كما ادركنا خلال الاسابيع الاخيرة. وفي هذا التجويف تمر امامنا السنين والمصائر والحلول الممكنة، فنخشاها، ونعود للاختباء داخل الاخدود الاسود الضيق، الذي يزهو امامنا كلحد برائحة البارود، المنطلق لقصفهم، او النازل من فوق لقصفنا.
محشورون في اسطوانة المدفع، حشراً منحنا كل انواع الحيرة، فرغم ان جيوبنا مليئة بالمال، بقينا حيارى في كيفية انفاقه بما يغير شكل حياتنا، وهل يمكن لكنوز الدنيا ان تمنح حياة سعيدة لجيل محشور في اسطوانة مدفع؟
ولأننا معتقلون في هذا الممر الضيق، الاسطوانة المضمخة بأغلى انواع البارود، والمزيتة بنفط ارض السواد، فإننا بقينا حيارى كذلك في دعوات الحوار والتصالح. كان الصلح ممكنا ولا يزال، لكن لا احد يفهم لماذا ينقطع الحوار، وننزلق الى المزيد من اسباب الموت، حتى نكتشف اننا بالبديهة عاجزون عن استثمار ممكنات الكلام، لتقليص ممكنات القتل، لاننا لم نغادر محل اقامتنا داخل بيت البارود، المليء بالوساوس والشكوك وغموض العرافين ووصفات الملاحم والفتن، التي تسخر من كل الحلول، وتحاول اقناعنا بأن "العدو" لن يقبل بأي حل، فهو غدار، لن يداويه سوى الاخضاع الدموي، كقدر مكتوب ومقدس لا فكاك منه.
وهل يمكن لغير هذا ان يفسر لنا، كيف تأجلت صيغ الحلول التي تلجأ اليها الامم العاقلة، لتحقن الدم وتتفرغ للاحلام والآمال والسعادات، ٣٥ عاماً، ثم ١١ سنة، وأخيراً ٣٥ يوماً قضمت من عمر البرلمان؟
لم نكن مجرد جيل مقيم في تجويف مدفع، شاهداً على كل الحروب والخيبات وتبدد فرص الحوار، بل نحن ايضا جيل فريد رأى بأم عينه كيف تنهار الممالك وتغدو ارضها بلاقع، فالسقوط ليس بالنسبة لنا، فصلاً من مقدمة ابن خلدون الذي شهد انتحار امبراطوريتنا الافلة، يوم كتب عن "لسان الكون الذي نادى بالعالم بالخمول، فبادر الى الاستجابة". لقد كنا بلحمنا وشحمنا، عبارة عن امر انهيار يتردد على لسان الكون نفسه، وحين انهارت الممالك وزالت الدول لم نجد سوى اسطوانة المدفع المحترق، كي نختبئ فيها، ونظل عالقين في انتظارات شتى.
لم يكن الانهيار حدثاً حصل في ٢٠٠٣، لقد شاهدناه ونحن مراهقون في ٩١، حين تحولنا من بشر شبه طبيعيين الى سكان ينتمون للعصر الحجري، نملأ الاواني البلاستيكية بالماء، وندفعها الى المنزل بالعربات، فيما تطير فوق رؤوسنا قاصفات من ٣٠ دولة، تدمر كل شيء. زالت الدولة في مشهد خلدوني مروع، ولم تبق لدينا سوى مدرعات محترقة نقيم محشورين في اسطوانة مدفعها المهزوم.
لسنا في وارد الجزع، لكننا بحاجة الى تفسير، لخوفنا من مغادرة الاسطوانة المحترقة في مدفع الوساوس. ولتأخرنا عن اعتماد الحلول الشجاعة. لتلعثمنا الذي اتاح لداعش، ولاكثر من ارادة عابرة للحدود، ان تجعل البنادق اسرع من جلسة شجاعة للبرلمان، او اجتماع يليق بمهابة الدم، لقادة ما تبقى من هذه البلاد التي زالت مراراً وتكراراً.
جزع الاقامة في مدفع
[post-views]
نشر في: 7 يوليو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 3
ابو سجاد
لاحل لماساتنا وموتنا الا حل واحد لاغير ان نحمل العراق على اكتافنا وننقله الى ارض اخرى ليس فيها جار اسمه ايران ولا مملكة هرمة اسمها السعودية فهذا هو الحل الوحيد الذي يوقف مطاردت عزرائيل لنا كونه مقيم دائمي بين هاتين اللعنتين ماهو رايك بهذا الحل اليس هذا حل
عبد الباسط الراشد
تحفة ادبية ووصف بديع وراقي رغم انه مقال يفيض بالاحزان والدموع الا انك لاتملك الا ان ترفع القبعة لهذا المستوى , سلمت اناملك استاذ الطائي.
وسام يوسف
لقد قمت بوصف الحالة كما عشناها و شعرنا بها ولا زلنا. أشكرك لأنك من الناس الذين يفتحون عقل الانسان البسيط وتساعد لفهم الحالة والتعبير عنها بصورة ذكية. كان هذا المقال متنفس لما في داخلي وإحساس جيد ان اخرين يحسون بما احس. رغم أني أعيش خارج العراق لسنين طويلة