كلنا يهود عندما تفلس دفاترنا الجديدة، في سوق بائرة لنعود إلى دفاترنا العتيقة نتلمس فيها العون، ويا لبئس أمة تحلم بماضيها بعد أن ضاق بها حاضرها وغمُض في عيونها مستقبلها. وفي تلك الدفاتر صفحات مضيئة من تاريخنا وإن نَدُرت ومنها صفحة الخليفة الأموي عمر
كلنا يهود عندما تفلس دفاترنا الجديدة، في سوق بائرة لنعود إلى دفاترنا العتيقة نتلمس فيها العون، ويا لبئس أمة تحلم بماضيها بعد أن ضاق بها حاضرها وغمُض في عيونها مستقبلها.
وفي تلك الدفاتر صفحات مضيئة من تاريخنا وإن نَدُرت ومنها صفحة الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز الذي أحدث انقلاباً سياسياً وإعلامياً وأخلاقياً على حقبة مظلمة حكم فيها خلفاء فاشيون سبقوه كرّسوا الفساد والظلم سنّةً سياسية ودينية وجعلوا من المنابر وزارة إعلام لشتم علي بن أبي طالب ونسله (ثم قتل نجله الحسين وآل بيته وأصحابه ومناصريه) فكان منه أن ترك لعن علي على منابر إسلام السلطة الحاكمة وجعل مكانه "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلّاً للذين آمنوا.. ربنا إنك غفور رحيم".. ليكون عمر السلطان النادر غير الجائر في تاريخ المسلمين بانقلابه الفكري العقلاني على أرشيف سلطوي ظالم.
ذكر المسعودي صاحب (مروج الذهب) أن عمر بن عبدالعزيز أقدم، في أول إجراءاته عندما استخلف، على صرف عمّال (الجهاز الإداري والولاة) من كانوا قبله من بني أميّة واستعمل أصلح من قدر عليه فسلك عمّاله طريقته. وتميز بأنه كان طالباً للنصيحة والمشورة وغير مستبد برأيه وكان يأنس بالرأي الآخر أو يأخذ به:
"لما استخلف عمر دخل عليه سالم السدي، وكان من خاصته، فسأله عمر: أسرّك ما وُلّيت أم أساءك؟ فقال: سرّني للناس وساءني لك (...) ما أحسن حالك إن كنت تخاف.. إني أخاف عليك أن لا تخاف. قال: عظني، فأجابه: آدم أُخرج من الجنة بخطيئة واحدة".
كم هي خطايا سلاطين اليوم؟
كتب عمر إلى عامل من عماله: قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإمّا عدلت وإما اعتزلت، والسلام.
وذكر المدائني قال: "كان يُشترى لعمر قبل خلافته الحلة بألف دينار فإذا لبسها استخشنها ولم يستحسنها، فلما أتته الخلافة كان يُشترى له قميص بعشرة دراهم فإذا لبسه استلانه (من الّلين)".
من أقواله : "إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بعاصٍ، ولكن الإمام الظالم هو العاصي...".
و ما قاله ملك الروم (لم يذكر المسعودي اسمه) في عمر: ".. ولم أعجب لهذا الراهب الذي ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته ولكنني عجبت من هذا (يقصد عمر) الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب.. إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلاً".
جدل في التسامح
دخل عمر في حوار وحاجج وانتصر، في مثال ناصع على روح التسامح والتخلص من عقد التاريخ وثاراته بين الطوائف والجماعات والحركات، وكان هذا حتى مع (إرهابيي) زمانه من الخوارج حتى أعادهم إلى رشدهم بعد أن أفحمهم بحجته عندما طالبوه: "رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها المظالم وسلكت غير سبيلهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرّق. فقال عمر: إني علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لدنيا ولكن أردتم الآخرة وأخطأتم طريقها وإني سائلكم عن أمور فبالله لتصدقنني عنها، أرأيتم أبا بكر وعمر، أليسا من أسلافكم وممن تتولونهما وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالوا: بلى، قال: فهل علمتم أن أبا بكر حين قبض (مات) رسول الله (ص) وارتدت العرب قاتلهم فسفك الدماء وأخذ الأموال وسبى الذراري؟ قالوا: نعم، قال: فهل علمتم أن عمر حين قام بعد أبي بكر رد تلك السبايا إلى أصحابها؟ قالوا: نعم، قال: فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالوا: لا. قال: أفرأيتم أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالوا: نعم. قال: فهل علمتم أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم ولم يسفكوا دماً ولم يخيفوا آمناً ولم يأخذوا مالاً؟ قالوا: نعم. قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم استعرضوا الناس يقتلونهم ولقوا عبدالله بن حبّاب بن الأرث صاحب رسول الله (ص) فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبّحوا (دخلوا صباحاً) حيّاً من أحياء العرب فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يلقون الصبيان في قدور الأقط وهي تفور؟ (الأقِط: شيء يتخذ من اللبن المَخِيض يطبخ ثم يترك حتى يَمْصُل – لسان العرب) قالوا: قد كان ذلك.
قال: فهل تبرأ أهل البصرة من أهل الكوفة وأهل الكوفة من أهل البصرة؟ قالوا: لا. قال: فهل تبرأون أنتم من إحدى الطائفتين؟ قالوا: لا. قال: أرأيتم الدين واحداً أم اثنين؟ قالوا: بل واحداً. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قالوا: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر وتولى أحدهم صاحبه وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة وتولى بعضهم بعضاً وقد اختلفوا في أعظم الأشياء، في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم؟".
إن استبطانا يسيراً لما مر في السطور أعلاه يكشف ما يمكن أن يتناوشه حاضرنا المتوتر والعصابي والعنفي من صفحة تراثية سابقة، وإن كانت نادرة في ماضينا المثير للجدل، لنخلص إلى أن أحداث الماضي (حتى جرائمه) قابلة للاستئناف على وفق شروط وقواعد قانونية وأخلاقية، لاستنقاذ الذاكرة، فردية أو جمعية، من إرثها الدامي الذي يثقل على العقول والأرواح والأفئدة هذه الأيام.