2-2
إلى صديقي المقاوم، كاظم غيلان
كما ذكرت في العمود السابق، قبل أسبوعين، المكان الذي يلتقي فيه الشباب من الفنانين ورجال المسرح والتشكيليين في ساراييفو هو مقهى المتروبولس . آلما لازاريفسكا، واحدة الأديبات المعروفات في البوسنة والهرسك وعضوة فعالة من جماعة "99"، هي التي قادتنا إلى المقهى الذي يلتقون فيه، آلما والتي سبق وأن قرأت لها أثناء سنوات الحرب: "صبر على طريقة ساراييفو"، مادة ساخرة بشكل مدهش، ما زالت لها القدرة على التهكم، والكوميديا السوداء، تقول "انسوا الحطام وكل الأموات، لقد صُفيت روح ساراييفو"، ليس هناك العيش المشترك للأديان والقوميات المختلفة. ليس هناك التنوع الموزائيك الجميل الذي عاشته ساراييفو عصوراً طويلة. الهدم حقق أهدافه. الخرافة انتصرت. خليط ساراييفو الجميل فُتت. في تلك المقالة تُذكِّر "آلما" ببداية صعود والت ديزني، وكيف أنه راح يكسب نقوده بعد الحرب العالمية الأولى، عن طريق بيعه قطع الذكرى من الحرب على الجنود الأميركان الذين لم تسنح لهم الفرصة بالمشاركة بالحرب العالمية الأولى، لوصولهم متأخرين إلى أوروبا "كان يطلي خوذ الجنود غير المستعملة، النظيفة، بصبغة دم يابسة، ويبيعها عليهم، لكي يعرضونها في بيوتهم، ويمنحون الانطباع مفتخرين بأنهم شاركوا في الحرب العالمية الأولى بصورة فعلية وجُرحوا هناك، "أننا الآن في مرحلة ما بعد والت ديزني"، تقول آلما بمرارة، "لم تعد هناك طلقة تسبب الصدأ لخوذة حربية، أنها القنبلة اليدوية التي تعدم الرأس مع خوذته، آلة تفليش العالم الأكثر راديكالية. وعندما تضرب القنبلة، فلن يساعد حتى تكنيك أفلام والت ديزني المتحركة لجمع ما تناثر بشكل نهائي".
الروح التهكمية ورواية المفارقة السوداء، وقول الحقيقة مهما كان الثمن، هي أمور نسمعها أيضاً من بقية جماعة 99 من كتّاب وفنانين، من المهندس المعماري المشهور ايفان شتراوس، مروراً بالمخرج السينمائي بجار زاليكا، والقاص المشهور ميركو ماريونيفيتش، والقائمة تطول: أوزرين كيبو، وماركو فيسوفيش، نيرمينا كورسباهيج، بريدراغ ماتيفيفيج، عاصم ميتلييفيش، نيناد فيليشكوفيج، كريم زايموفيج، أيفجين بافشار، فيليبور جوليش، عبدلله سيدران، بجير زاليكا، ماروشا كريسه، هرفويه باتينيك، دوبرافكو لوفرينوفيش، نيناند فيسير، ديزيفاد كاراحسان، ... وغيرهم من الفنانين والأدباء. كل القصص التي نسمعها منهم لا تسترجع مُثلاً ماضية أو تدعي مُثلاً جديدة، أنها ببساطة تحكي القصص فقط، عن المدينة وسكانها، بعيداً عن الانتساب لطائفة أو حزب، لدين أو جماعة، فبالتالي في ساراييفو، "بيت الجثث"، كما سماها عبدالصمد محمدينوفيك في قصته الكابوسية المدهشة "شيطان وزهرة، لم يُقتل غير الإنسان، والقتلة من كل الطوائف مازالوا طليقين يمرحون بحرية: أنها الحقيقة المرة التي لا يريد الساسة الاعتراف بها.
ثلاثة أيام من الإقامة في ساراييفو، بعد رحلة أدبية قصيرة عبر البوسنة والهرسك، رأينا روح ساراييفو عبر عيون مثقفيها، رساميها، مسرحييها، معماريها، علمائها وأساتذة جامعاتها، وسواء جلسوا في نادي الكتّاب القديم أو في مقهى المتروبولس الحديث، أو في "الفاسا مسكينا"، فإنهم يلتقون في مكان واحد، عند طاولة يأس مشتركة، لكي يعملوا من جديد على تشكيل "موديل ساراييفو الأصيل"، "حيث لا ينتمي الإنسان إلى جماعة معينة، الإنسان هذا الذي أنهكته الحروب، وأتعبته الضغائن، ودمرته الأحقاد".
إذن أنه أستيتيك المقاومة الدائم من جديد، أستيتيك المقاومة الذي يصر على العيش بسلام، على الحياة. فكيف لا أتذكر في الأيام هذه التي تمر على بغداد، أصدقاء لي في "بيت الجثث" بغداد، يقاومون هم الآخرون، كل على طريقته، بعضهم يصر على الجلوس في المكان ذاته، إلى اتحاد الأدباء مثلاً، حتى إذا أُغلق بسبب ذهاب عماله إلى أماكن سكناهم ، قلقاً على عوائلهم في شمال العراق، في شيخان، لا يهم المكان مغلق، لكنه يملك مفتاحاً رمزياً، لكي يفتح المكان ويجلس في حديقته، كما يفعل صديقي كاظم غيلان... وفي مقاومته يشاركه أصدقاء آخرون، كيف لا يفعلون ذلك، كيف لا يحتفون بالحياة، وكلهم يعرفون، أن الحقيقة الوحيدة في الحرب هي الموت، لكن لا أحد غيرهم يريد الاعتراف بذلك، فمتى سُمع صوت العقل، عندما يستحوذ الجنون على الجميع؟
ساراييفو وجماليات المقاومة
[post-views]
نشر في: 8 يوليو, 2014: 09:01 م