كان في بالي ان يكون العنوان هو "الشعر الشعبي والحرب". لكنني، عندما اختمرت الفكرة برأسي، وجدت ان استبدال "الحرب" بـ "الدم" أصدق وربما أدق أيضا. يرعبني ويفزعني الدم، لونا واسما ورائحة، أكثر من الحرب نفسها. شيء أقرب للفوبيا منه الى الخوف الطبيعي.
كان الشعر الشعبي، الذي مارست كتابته في سن مبكرة، بالنسبة لي مصدرا للراحة واللذة النفسية. أتنفس من خلاله الحب. أشم الورد. وربما أحس بالسعادة في بعض من معانيها. وكان فعلا هكذا من نواعي فدعة وموالات الحاج زاير مرورا الى قصائد مظفر وعريان وأبو سرحان الى الكاظمين الركابي والكاطع. لكنه لم يعد كذلك مع نهاية عصر السبعينات من القرن الفائت. الحد الفاصل كان بداية الحرب العراقية الإيرانية.
انفتحت مع مطلع الثمانينات صفحة الدم الشعبي. كرهت الشعر الشعبي كما كرهه اغلب الناس. وكان أشدهم كرها له جان دمّو. أصوات الشعراء، صارت تخترق حاجز الصوت لتسابق الطائرات التي ترش الدم والخراب من الجو. سُدت شهيتي لسماعهم. وشيئا فشيئا سُدت شهيتي بشكل تام عن كتابة الشعر الشعبي. أحسد الذي ظل مستمعا مثابرا، او قائلا لشعر تلطخت صوره ومعانيه، لا بل وحتى مفرداته بالدم العراقي وتمجيد الدكتاتور.
عندما بلغ ولدي أمجد الثامنة من عمره كتب أحدهم قصيدة مغناة فحواها ان "أم الشهيد اتقدمت جابت ابنها الثاني". حين سمعتها قلت لنفسي ان ابشع، وليس أروع، الشعر أكذبه.
كان ولدي أمجد، في لحظتها، قد انتهى توا من درس في الصلاة خلف جده الشيخ ناصر. انتهى فاحتضنته هامسا بأذنه: سأفرّ بك من هذا البلد الذي يريد شعراؤه من أمك ان تقدمك ذبيحة من اجل الدكتاتور وكأنها في حفلة ختان وليس مذبحة. سمعني فبكى. انه لا يريد فراق أصدقائه وجده وجدته. سألته لمن علمك جدك ان تصلي؟ لله. أتعرف ان هذا الذي تصلي له يعتبر دمك أكرم واعز عليه من بيته؟ فدمك كإنسان، يا ولدي، أقدس من أن نقدمه، انا أو أمك،قربانا لنزوات كائن من يكون. وتم الرحيل.
اليوم عاد الشعر الشعبي من جديد يطبل ويهلهل لسفك دماء أولاد الخايبة. أغان تخنقني بغيوم من دخان مضمخ برائحة دم اسود كلما جف يأتي من يسقيه بدم عراقي آخر قد ذبح توا.
عادت صورة الدكتاتور يضحك. وعاد السؤال الأبدي يطرق على أبواب قلبي: كيف يمارس هذا الطاغية حياته الطبيعية ليلا، ويداعب أطفاله وأحفاده على مائدة إفطار بلا حدود، وهناك عراقي يُذبح بسبب رفضه الرحيل؟
الشعر الشعبي والدم: مقدمة
[post-views]
نشر في: 11 يوليو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
ابو عباس
يلجأ الطاغية إلى إشعال الحروب، بهدف أن ينشغل المواطنون بصفة مستمرة، ولا ينفكون يحتاجون إلى قائد على الدوام.
سامي الحاج
يا إلهي هل قدرنا نحن العراقيين أن نبتلى بالدكتاتوريين على الدوام؟ كرسي الحكم في بلداننا بماذا يفرق عنه في أوروبا والدول (العاقلة)؟ أليس هو نفس الكرسي وله نفس السحر والسطوة؟