تتضمن عملية بناء المدينة مرحلة أولية غاية في الأهمية هي مرحلة التخطيط Urban Planning تتبعها مراحل أخرى كعملية البناء والتنفيذ Construction والتشغيل Operation والتقييم Valuation، بالاضافة الى صيانة المدينة وهيكلها Maintenance لتلافي المشاكل الحاصلة في
تتضمن عملية بناء المدينة مرحلة أولية غاية في الأهمية هي مرحلة التخطيط Urban Planning تتبعها مراحل أخرى كعملية البناء والتنفيذ Construction والتشغيل Operation والتقييم Valuation، بالاضافة الى صيانة المدينة وهيكلها Maintenance لتلافي المشاكل الحاصلة فيها وغير المتوقعة. ويلعب المخطِط Planner دورا ً رئيسيا ً في هذه المراحل وبالذات أولاها، وليس بالضرورة أن يكون المخطط في صورة فرد ولكن في صورة مؤسسات تخطيطية مثل Doxiadis اليونانية و Polservice البولونية اللتين ساهمتا في تخطيط بغداد ومدناً أخرى، أو في صورة دوائر للدولة كأمانة العاصمة والبلديات، والتي غالبا ً ما تتنحى عن مسؤولياتها التخطيطية وتكتفي بدور رب العمل والمراقب.
لقد تطورت عملية التخطيط الحضري وتعقدت الى درجة لم تعد المؤسسات التخطيطية قادرة على إدارتها دون الاستعانة بمؤسسات أخرى أهمها دوائر الاحصاءStatistics ودوائر المسوحات المختلفة Surveying بالإضافة الى الجهات المختصة بالدراسات التاريخية للمدينة والاجتماعية وحتى النفسية، وبدون هذه الدراسات الأولية تتحول عملية التخطيط الى عملية تحميلية لفرضيات Hypothesis قد تكون شديدة البعد عن الواقع، أو تتحول الى عملية تخمين Estimating يصعب الوثوق بها. وينطبق هذان الأمران على معظم أو جل الدراسات التخطيطية التي أنجزت على مدن العراق بدءاً بأولاها عام 1936 من قبل Breaks and Bronowenver of Berlin ومرورا ً بمقترحات Doxiadis والتي قد تعتبر الاهم فيما أنجز ضمن تخطيط المدن العراقية. لم تُبن هذه المقترحات على احصاءات قابلة للاعتماد أو بيانات دقيقة، كما أنها كانت نظريات مستوردة من عالم آخر وقارة أخرى ومجتمعات مغايرة ومن ثم تم أخضاعها لتلائم المدن، أو بالأحرى أخضاع المدن هذه كي تلائم النظريات.
يتولى المخطِط الحضري وظيفة مهمة في تنظيم حياة المجتمع – أو تقويضها – أذ يضع الخطوط الاولية العامة لنشوء المدينة City Evolution ونموها وتوسعها Expansion وتطورها Development ، وهو يسبق في دوره الكثيرين ممن يساهموا في هذه العمليات، ولذا يقع على عاتقه وضع الاسس الصحيحة لحياة المدينة كما يتحمل تبعة أرساء المبادئ الخاطئة التي قد تجرف المدينة الى مسارات تفسد نموها أو تشل ّ هيكلها وقد تدمر اقتصادها وبالتالي تحيل حياة المجتمع فيها الى معاناة يصعب التخلص منها.
ومغزى الحديث هنا أن مهمة المخطِط الحضري ليست بالمهمة الهيّـنة التي يسهل التهاون بها أو الاستخفاف بها، فقد أدت بعض القرارات التخطيطية الخاطئة الى مشاكل كلفت المدينة ومجتمعها الكثير. فقد أدى التخطيط المكتظ Compact Planning في مراكز المدن الكبرى Downtowns مثل نيويورك الى حرمان هذه المراكز من الكثير من عوامل الراحة المطلوبة كالاضاءة المناسبة والتهوية الكافية وسهولة الحركة ووصول الخدمات كما أدى ذلك الى تحول هذه المراكز الى أماكن للجريمة والتسول والادمان، في حين أدى القرار التخطيطي المناقض في تحويل قلب مانهاتن أغلى بقاع الارض الى متنزه عام Central Park من أجل أحياء هذا المركز المكتظ والى الاعلان بأن الحاجة الى الترفيه والتنزه فيه لاتقل أهمية عن الحياة التجارية والادارية.
أن مدنا ً بأعمار زمنية طويلة نسبيا ً كمدن العراق نمت بشكل عضوي Organic ولقرون عديدة ومن خلال تكاثف التجارب فيها والذي جنبها الوقوع في مشاكل تخطيطية بمقاييس كبيرة، فقد كانت المدينة تمتص مشاكلها المستحدثة بشكل تدريجي. ثم حدث أن أصبحت مهمة التخطيط الحضري موكلة الى مؤسسة امتلكت الحق في تقرير مسارات النمو والتوسع في هذه المدن، غير أن الغريب ولغياب الكادر التخطيطي المؤهل لادارة هذه العملية في العراق آنذاك أي في النصف الاول من القرن العشرين، فقد أوكلت هذه المهمة الى المخطط اليوناني C.A. Doxiadis (1914-1975) والذي تولى مهمة إعادة ترميم أثينا بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الوظيفة التي أهلته للعمل في مدن عديدة أخرى اهمها أسلام آباد في الباكستان وفي البرازيل والاردن ولبنان وايران وايطاليا وليبيا والسعودية والسودان واميركا وزامبيا وغيرها. وبرغم الجهد العملي والنظري الكبير الذي انجزه دوكسيادس وقد كان يدعى بمبدع مفهوم وحدة السكن Ekistics ، الا أن مفاهيمه ونظرياته و مبادئ تخطيطه كانت بعيدة كل البعد عن واقع المدينة في الشرق الاوسط عموما ً والعراق خصوصا ً ولذا جاءت تطبيقاته العملية قسرية تحميلية وبشكل مكرر لايحمل أية خصوصية للمدينة التي اريد انجازه فيها، وجاءت الحلول والمقترحات هي ذاتها في بغداد وأربيل والحلة والكوت والتي اعتمدت في مجملها على التخطيط الشطرنجي Grid Iron ، والمثير للدهشة أن مخطط مدينة كركوك جاء مطابقا ً لهذا النمط برغم خصوصية الموقع وبرغم اشتراك مكتب دار العمارة في التخطيط والذي أسسه وأداره المعماري العراقي قحطان المدفعي وأخوه الانشائي هشام المدفعي (عقيل الملا حويش - العمارة الحديثة في العراق 1988).
أما الامر الاخر الذي جعل مقترحات ومخططات دوكسيادس بعيدة كثيرا ً عن واقع المدينة العراقية هو افتقارها الى البيانات الحقيقية والدراسات المتفهمة لمدن العراق ومجتمعاتها. ان التمعن في هذه المخططات يكشف بوضوح انها لاتراعي أيا ً من خصائص المدينة في العراق، بل أنها تتجاهلها تماما ً فكانت بداية المسخ الشامل لمعالم المدن في العراق وبداية التأسيس للاوضاع المأساوية التي عاشتها وتعيشها مدن العراق وسوء الخدمات وأنعدام الهوية Identity والانقطاع التأريخي، ولايعد اجحافا ً القول بأن مقترحات دوكسيادس هي الاسوء في مجمل تأريخ المدن العراقية. ومن بين كل مخططاته يعد مخطط مدينة الثورة ( الصدر حاليا ً ) 1958-1961 هو الأسوأ على الاطلاق والذي صنع من قطاع كبير من قطاعات العاصمة ما هو أشبه بالثكنات العسكرية أو معتقلات على شكل وحدات سكنية فقيرة فاقدة للروح تتكرر بايقاع يبعث على الاعياء. هذا النظام الشطرنجي الممل الذي طالما كان يبرر لتسهيل الخدمات والحركة ولبث فكرة المساواة قد أحال هذا الجزء من المدينة الى أكثر أجزائها فوضى وأسوأها خدمات وأكثرها رتابة وكآبة وأقلها نظاما .
لقد كانت الاثار السيئة التي تركتها بصمات دوكسيادس على مدن العراق كبيرة ومؤثرة الى حد لم تستطع كل المحاولات التخطيطية اللاحقة لها من أن تتخلص من آثارها هذه وأن بُنيت على أسس وبيانات ودراسات منطقية وواقعية، كالمقترحات التي وضعتها مؤسسة التخطيط البولندية Polservice 1965-1973أو اليابانية JCCF 1984. ولم يكن دوكسيادس وحيدا ً في أتخاذه هذه القرارات التخطيطية السلبية والسريعة (تم وضع مخططات لثماني مدن رئيسية في العراق في خلال ثلاثة أعوام 1955-1958) ولكن بمشاركة العديد من المخططين والمعماريين العراقيين آنذاك كالاستشاري العراقي ودار العمارة والمركز القومي للاستشارات الهندسية والمعمارية.
للمخطِط الحضري القدرة على وضع الاسس لجعل المدينة منظمة سهلة الاستعمال واقتصادية وتحويلها الى بيئة حضرية ملائمة لنشوء أفرادها بشكل صحي وسيلم، وجعلها محببة الى ساكنيها وقادرة على خلق حوار بصري ووظيفي فعّال وجدير بصناعة الذاكرة المتبادلة بين المكان وقاطنيه. أو بالعكس فأن سوء التخطيط الحضري يحيل المدينة الى مكان متعِب يثير الاجهاد والتوتر لدى ساكنيه، أو تكون مكانا ً مملا ً مسخا ً بلا ذاكرة وغير قادر على أشاعة الحب بين ساكنيه أو أشاعة روح التعاون والاهتمام والذي يجعل الاتصال بين المواطن ومؤسسات الدولة غير ممكن أو مبني على التحايل والتملص من المسؤوليات.
" . فالسكان إذ ينقصهم الإحساس بهوية الانتماء للمكان ، ولا تحكمهم روابط الجيرة ، يتبعون أنماطاً سلوكية لعلها مما قد نراها عند الثدييات العليا وهي في حالة يأس ؛ فهم يلوثون مأواهم . وسرعان ما تفقد المباني أناقتها ، وتزيد إحصائيات الجرائم زيادة مروعة ، ويتجلى إحساس باللامبالاة والغضب الكئيب هو بمثابة الطابع الدامغ (( القصور في النمو )). " – وليام ر. بولك في مقدمة كتاب عمارة الفقراء للمعمار المصري حسن فتحي -.
جميع التعليقات 1
جواد سعدون حمزه
الموضزع يستحق التعمق والتوسع فيه وماطرحه الكاتب يستحق المناقشه والدراسه من قبل المختصين وق اشار الكاتب مستندا الى مصادر مهمه يحتاج البحث ايضا للتوقف عند نصوص مهمه اخرى فيها ومنها المصدر الموسوعي للمفكر المعماري الدكتور عقيل الملا حويش الذي كتب بموسوعيه وم