غالبا ما كنت أراه يأتي الى المقهى، مقهى الجمعة الأدبي، الذي مافتئ مَعْلما من معالم يوم الجمعة، حسن عجمي، ومن ثم انتقالنا الجماعي، نحو مقهى الشابندر، يأتي دائما بمعية الأستاذ الدكتور شجاع مسلم العاني، ومع مرور اللقاءات انعقدت بيننا وبينه، آصرة مودة وا
غالبا ما كنت أراه يأتي الى المقهى، مقهى الجمعة الأدبي، الذي مافتئ مَعْلما من معالم يوم الجمعة، حسن عجمي، ومن ثم انتقالنا الجماعي، نحو مقهى الشابندر، يأتي دائما بمعية الأستاذ الدكتور شجاع مسلم العاني، ومع مرور اللقاءات انعقدت بيننا وبينه، آصرة مودة واحترام، نستطيع ان نسميها صداقة، ما قربتني اليه، دماثة خلقه، وثقافته، ثم جاء الخبر المفجع، لقد ذهب الدكتور الباحث سعد ابراهيم عبد المجيد ضحية حادث اصطدام مروع على الطريق الرابط بين بعقوبة وبغداد وهو يهم بزيارة بلده مصر، هناك من يلازمهم سوء الطالع والحظ العاثر في الحياة والويل كل الويل لمن يصادف مولده ما يعرفه علماء الأبراج بـ (خلو المسار) أي الانتقال من برج الى اخر فيبقى الأذى يلازمه طوال حياته.
ولعل الباحث الرصين الأستاذ الجامعي الراحل سعد ابراهيم عبد المجيد، من هذه الفئة، إذ دفع ضريبة عظمى، بسبب هذا الحظ العاثر، حتى أستاذه المشرف الدكتور ناصر رشيد حلاوي، يفارق الحياة قبل ان يكتمل بناء رسالته للدكتوراه الموسومة بـ(التناص. دراسة في الخطاب النقدي العربي) ليؤول الإشراف الى الأستاذ الدكتور عناد غزوان اسماعيل، - كما يذكر ذلك الناقد شجاع مسلم العاني- في مقدمته للرسالة المذكورة، والذي تولى نشرها والاعتناء بها مشكوراً، وأصدرتها دار الفراهيدي للنشر والتوزيع سنة 2010 وبدون مجاملة او مواربة لقد احسن العاني صنعاً بنشر هذه الرسالة الرصينة، التي درست احدى الظواهر النقدية والبحثية، التي شغلت المتلقين والباحثين والمنشئين، منذ فجر الكتابة، والى الان والمستقبل، واعني بها ظاهرة التناص.
لعل من حسن طالع المؤلف، وطالعنا نحن القراء، ان يرجو سعد أستاذه العاني قراءة الفصل الرابع من الأطروحة، وثم قرأ الرسالة كاملة، حين رشح عضواً في لجنة المناقشة، التي منحت الباحث سعد درجة الامتياز.
ولولا اعتزاز الدكتور العاني بالأطروحة وكاتبها، وجاء رحيل كاتبها الفاجع، ليضع مسؤولية مضاعفة عليه، إبقاء لذكرى صديقه وتلميذه سعد، ولولا كل ذلك لبقيت الأطروحة ثاوية في رفوف المكتبة يعلوها الغبار والنسيان، فما اكثر الرسائل والاطاريح الثاوية، تحيا غربة وضياعاً، ولعل جزءاً من ذلك يعود لما تتسم به تلك الرسائل من ضعف وتكرار.
لقد قرأت هذه الأطروحة ، الكتاب الذي امتد الى نحو اربع مئة صفحة، والذي درس من خلاله هذه الظاهرة النقدية التي عرفت بـ(التناص) التي تعني اخذ نص ما سواء أكان نثراً أم شعراً من نصوص اخرى والتأثر بها، والتشابك معها، سواء اجاء ذلك عفو الخاطر ونتاج القريحة، ام كان مقصوداً، وهو ماعرف لدى النقاد العرب بـ(سرقات الشعراء). هذا المصطلح التناص الذي ابتكرته الناقدة الفرنسية ذات الأصل البلغاري جولياكر ستيفا في عقد الستين من القرن العشرين ولقد شمر الباحث سعد عن ساعد الجد ليدرس حدود هذا المفهوم غربيا وعربيا ومرجعياته وآلياته، فضلا عن أقسامه ومستوياته. وكان الباحث دقيقاً دقة تكاد تكون متناهية في مراجعة المصادر والمراجع والدوريات التي درست هذا الموضوع الشائك ، عاقداً المقارنة، مصوبا رأيا ما، داحضا اخر، وصولا الى حقائق الأشياء، ولعل ذلك يتجلى من كثرة الإحالات في الصفحة الواحدة، فضلا عن ثبت المراجع والمصادر، الذي شمل القديم والجديد، الغربي والعربي، وأسلوب جميل في الكتابة، مما يؤكد تضلعه في هذا المجال. وقلة هم أصحاب الأساليب الجميلة.
يدرس الباحث سعد ، حدود ظاهرة التناص في المفهوم الغربي، ولم يقف عند مبدعة هذا المصطلح فقط بل من اجل اغناء الموضوع درس مرحلة ما قبل كرستيفا ومدى وعيها بها واقفا عند آراء الشكلانيين الروس، الذين لم تسعفهم ظروف بلادهم بانارة هذا الموضوع، اذ وئدت حريتهم بعد صعود افكار ثورة اكتوبر الأحادية وتفسيرها الخاص للحياة والادب والفن، وعدم قبولهم الرأي الاخر، الذي لا يأتلف مع افكار العامة والقطيع، اذ عملوا في هذا المجال خلال سنوات قصيرة (1915-1929) ثم يدرس الباحث سعد، جهود الناقد الروسي ميخائيل باختين، في نقده الحواري، الذي يعد الحوارية مبدأ الكتابة الادبية وأساس وجودها، وهو مادرسه الناقد تزفتان تودوروف في كتابه (المبدأ الحواري) الذي ترجمه فخري صالح ونشرته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة 1992.لكن اذا ما تاملنا موقع باختين من مصطلح التناص، فاننا نجد من يقر انه لم يستعمل كلمة تناص ، ولا اي كلمة اخرى تقابلها بالروسية، كما يقول الباحث الدكتور سعد، بل استعمل لفظة (تداخل) مثل تداخل السياقات، التداخل السيميائي، ولعل هذا ما جعل النقاد يرجعون الفضل في ابتكار مصطلح التناص الى ميخائيل باختين، لا بلفظه الذي جاءت به جولياكرستيفا، بل بإرهاصات اللفظ ومقارباته وتداخلاته، وهنا ندخل في حومة الجدل والنقاش، من اجل اعطاء كل ذي حق حقه، ومن اجل ان لانبخس الناس أشياءهم، فالناقد المدقق الدكتور عبد الله الغذامي يرى ان شلوفسكي هو الذي تفتق ذهنه عن هذه الفكرة وليست اللفظة، فأخذها عنه باختين الذي حولها الى نظرية حقيقية من خلال مصطلح (الحوارية) الذي يعني عنده النصوص المتداخلة ، ومن ثم التناص، او مايسمية القاص والمفكر الناقد محمد خضير (المجرات المتجاذبة) والذي أفاض في الحديث عنها في كتابيه (الحكاية الجديدة) و (السرد والكتاب) الصادر في ضمن منشورات مجلة (دبي الثقافية) الاصدار 36 – الطبعة الاولى مايو /مايس/2010.
ومن اجل ان يغني الباحث الدكتور سعد ابراهيم عبد المجيد، اطروحته، بحثه هذا، فانه يبدأ بالبحث، عن متى بدأ الوعي بهذه الظاهرة، ظاهرة التناص ومتى ؟ أهي حديثة كما يذهب الى ذلك بعض النقاد، ام انها قديمة، قدم الكتابة ؟ كما يرى، واوافقه أنا هذا الرأي ، فهذه الظاهرة قديمة قدم الكتابة ، كما ان النقد قديم قدم الكتابة كذلك، لكن ياتي لاحقاً لها اذ ان هناك من ينسب قولاً لكاتب فرعوني اسمه (سنب) عاش قبل الميلاد بنحو الفين ونصف الأول من السنوات، قال : ألا ليتني اجد الفاظا لم يعرفها الناس وعبارات واقوالا بلغة جديدة لم ينقض عهدها ، فليس فيما تلوكه الالسن اقوالا وعبارات لم يقلها اباؤنا من قبل، وغير خاف عن الدارسين قولة عنترة بن شداد العبسي التي ذهبت مثلا :
هل غادر الشعراء من متردم – ام هل عرفت الدار بعد توهم
او قول الشاعر الجاهلي
ما أرانا نقول الا معادا
او معارا من قولنا مكرورا
او بيت أبي العلاء المعري
واني وان كنت الأخير زمانه –لات بما لم يقله الأوائل
وفي رواية: لم يستطعه ، وكان هذا البيت سبباً في إحراجه، احرجه طفل ذكي طالبا منه زيادة حرف في العربية الى جانب حروفها الثمانية والعشرين، فلم يحر المعري جواباً وسكت على جلالة قدره وعلمه، صاحب لزوم مايلزم ورسالته الرائدة (رسالة الغفران) وهذا ما تذكره مصادر الأدب القديمة وان كنت اشك في صدق هذه الرواية، ودليلي في ذلك عقلي، الذي لا يقبلها، فضلاً عن رأي الناقد الامريكي الشهير نور ثورب فراي، من انه لايمكن ان تجيء رغبة الكاتب في الكتابة الا من تجربة سابقة، ان الأدب لا يستمد طاقته وأشكاله الا من نفسه، كما ان ليست خافية عنا مقولة: الليث والخراف المهضومة، او مقولة الناقد والروائي الايطالي، صاحب الرواية الشهيرة (اسم الوردة) من كون الكتاب الجديد، قراءة لكتب قديمة،والياذة هوميروس او قول ميخائيل باختين بعدم وجود كلمة عذراء لايسكنها صوت الاخرين باستثناء كلمة ادم، كل كاتب- كما يرى هارولد بلوم- عندما يبدأ الكتابة لايمكنه التخلص من اصوات الاخرين وتاثيراتهم عليه، فهو يكتب دائما مع او ضد كتاب وضع قبله- تراجع ص86. ويبقى الفضل، كل الفضل للكتب الرائدة التي وضعت المدماك الرصين لفكر الانسان: ملحمة كلكامش، والمهاباهارتا والاوبانيشاد والفيدا الهندية وغيرها من اوائل انجازات العقل البشري.
قلت في صدر حديثي هذا ، لقد كان الباحث الدكتور سعد ابراهيم عبد المجيد، دقيقاً، دقة تكاد تكون متناهية، ومن جملة دلائل دقته، انه يورد النص المنقول كما ورد ولايغير الخطأ الاملائي او الطباعي او النحوي، مهما كان بسيطا مع الاشارة اليه بعبارة (كذا) اي هكذا او كذا ورد في النص الاصلي، كما اني وجدت انه يورد كنية المعري (ابو علاء) والذي تواتر الينا وصوله (ابو العلاء) وكانت الدقة توجب عليه إيراد كنيته كما وردت الينا من بطون التاريخ والمصادر القديمة. تراجع ص102 .
ولم تقف دقته الباهرة عند كلمة خطأ، بل انه ينص حتى على الحرف الذي كان وروده على هذه الهيئة غلطاً، من ذلك ما ورد في ص 142 ناقلا نصا للناقد المغربي بشير القمري من كتابه (شعرية النص الروائي) فانه يذكر البند الاول – الذي يتعلق بمعرفة حدود الاتصال والانقطاع داخل الثقافة بمفهومها الواسع. فانه لدى ذكره البند الثاني، يضيف له القمري (واو) العطف هكذا- والثاني) ولان لا سبب وجيها لذكر هذه الواو المقحمة، فان الباحث الدقيق الدكتور سعد، يؤشر إزاءها بعبارة (كذا) .
ان كتاب (التناص- دراسة في الخطاب النقدي العربي) لمؤلفه الراحل الدكتور سعد ابراهيم عبد المجيد، الذي تخطفه طائر الموت سراعا، قبل ان يقدم ماعنده في عالم البحث والكتابة الرصينة، كتاب جامع ولا اقول مانع لاستيلاء النقص على جملة البشر، كما قال جدنا القاضي الفاضل، ولان الكمال المطلق لله وحده، واجب الوجود، كتاب يكاد يجيب عن كل الاسئلة التي ترد على خاطر الدارس والقارئ عن هذه الظاهرة الأزلية، لأنه جمع وناقش جل ان لم اقل كل ماكتب في ظاهرة التناص التي بلورتها الناقدة جوليا كرستيفا لتطلقها الى دنيا النقد والكتابة، لينشغل المختصون بها، كما ان الباحث العراقي الجاد والناقد الأستاذ الدكتور شجاع مسلم العاني، الذي عرف بدرسه النقدي لعوالم القصة والرواية عراقيا وعربيا وعالميا، قد احسن صنعا بانتشال هذه الأطروحة العلمية من ثوائها ووضعها بأيادي الدارسين والقراء.
وكانت بحاجة الى جهد اكبر لتخلصيها من بعض ماعِلقَ بها من أغلاط طباعية، قد لاتخفى على ألبّاء القراء.
جميع التعليقات 1
احمد الهاشم
شكرا لك على هذا التلخيص المكثف لموضوعة التناص ,ولحاجتنا جميعا للجذور التاريخية لهذا المصطلح من خلال بحث اكاديمي رصين , ارجو ان تبرز اهم التداخلات والااستنتاجات التي وصل لها الباحث , لانها ستكون خلاصة افكاره , بموضوع آخر على صفحات المدى , وتقبل تحياتي .