فوجئنا، نحن شعراء بغداد الشعبيون، بقدوم زملائنا من المحافظات بأمر من صدام حسين. زرناهم فوجدنا الخوف قد تملّك قلوبهم وعيونهم قبل شفاههم تسألنا: شيردون منّا؟ كان ذلك في الشهر الرابع من العام 1980 على ما أتذكر.
تكدس الشعراء المدعوون، الذين طلب منهم الحضور مع نسائهم واطفالهم، في فندق المحيط السياحي بمدينة الكاظمية. لم تكن الحرب الفعلية مع ايران قد بدأت بعد. والا لتصور المدعوون ان أمرا بالتخلص منهم في جبهات القتال قد صدر. لماذا؟ لأن قرار حظر الشعر الشعبي بأمر القيادة القومية للبعث مازال ساري المفعول منذ العام 1974.
بلغت القلوب الحناجر من شدة الترقب حتى كادت ان تنجلط، لولا ان نادى المنادي على الشعراء لاجتماع مهم في قاعة الاجتماعات. ترأس الاجتماع كل من لطيف نصيف جاسم وعبد الجبار محسن وعبد الرزاق عبد الواحد مع شخصيات غير معروفة من الأمن الخاص. عندما سمع الحاضرون من رئاسة الاجتماع ان صدام يبلغهم تحياته وانهم ضيوفه صفقوا وردحوا وعلت بعض الهلاهل من الغرف المجاورة. زال الخوف وعم فرح هستيري. من الطبيعي أن المرعوب حين يطمئن فجأة يتهستر. وتعال يا من يسكت الهوسات والتصفيق. دارت همسات "الحمد لله والشكر"، كحسجة بديلة عن قول" الحمد لله على السلامة".
القيت التعليمات: كل من لديه قصيدة هجاء سابقة ليحورها ضد الخميني وحافظ الأسد. وكل من لديه قصيدة مدح فليضع بها اسم صدام. ومن كانت لديه قصيدة غزلية فليتلاعب بها ليحولها الى اغنية او قصيدة بحق "القائد". اما الأهم والاساس، فاكتبوا وكأن جيشكم في معركة مع ايران. اكد الآتي من الأمن الخاص: تذكروا انها معركة وليست حربا، باختصار اكتبوا وكأن اقلامكم مدافع وحربات وسيوف.
بدت رحمة الله. شاعرة من الفرات الأوسط هوّست: مثل الحنة الدم يصير. هوس بعدها شاعر منفعل فقد السيطرة على حركاته الجسدية الى ان سقط عقاله عن رأسه: فزّعنه وشوف شما بينه. تبعه شاعر بدرجة عضو فرقة متربطا برباط اصفر على بدلة خضراء: هذا اليوم الجنا انريده. قال الوزير: يالله توكلوا، فتوكل الشعراء وانزوى كل منهم ليحضر قصيدته لأمسية الغد التي سيحضرها صدام بنفسه.
ثلاث ليال وبحضور صدام قرئت عشرات القصائد واطلقت مئات الهوسات والاهازيج. انتهى المهرجان وبدأ توزيع "المكرمات". اهل المحافظات استلموا حقاب سود ضمت مسدس عيار 13 مع سوار ذهب لزوجة الشاعر إضافة لألف دينار. أما شعراء بغداد فكان نصيبهم حقيبة بنية او "قهوائية"، كما أُطلق عليها في آنها، مع مسدس أبو البكرة لكن بدون سوارات الذهب. بعدها بيومين تبين ان الحقيبة السوداء يتبعها 15 الف دينار مع قطعة أرض من النوع الفاخر. أما "القهوائية" فلا يتبعها شيء واصحابها من الدرجة الثانية من حيث المكانة عند القيادة.
امتلأت البارات بالشعراء ومسدساتهم تتدلى على جوانبهم. زاروا اتحاد الادباء الذي كانوا ممنوعين من دخوله فدخلوه كما الفاتحين. في اول زيارة لهم وبعد ان خفّت رؤوسهم بفعل "الاحتساء" أشتغل الرمي. ولأول مرة في الاتحاد تنبعث رائحة بارود الشعر الشعبي. وما من بارود الا ويتبعه دم.
يتبع ...
الشعر الشعبي والدم: في انتظار صدام
[post-views]
نشر في: 12 يوليو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
صباح هادي عبيد
عشت وسلم يراعك وبوركت على سرد الوقائع التاريخية. سأستفيد منها في موسوعتي عن العراق بزمن صدام. بالله عليك زدنا مما شهدته عنها. وليتك تتحفنا بإيميلك أو عنوان الفيس. وهذا عنواني: morningsabah@yahoo.com وعلى الفيس: صباح عبيد. مع الشكر.