TOP

جريدة المدى > عام > فيروز.. فعل الإدامة في ثقافتنا الإنصاتية الشائهة

فيروز.. فعل الإدامة في ثقافتنا الإنصاتية الشائهة

نشر في: 14 يوليو, 2014: 09:01 م

فيروز غابة من الأصوات الفائقة في عذوبتها، وشغفها، تمسرح الأشياء حولنا، تمنحها نوعا من الحسية الصائتة بإفراط،، اذ تستغرق بنا حدّ انها تصطنع عبر هذه الأصوات روائح وغوايات كثيرا ما تثير فينا نزعة الإنصات او التلذذ بجسدانية الجملة الموسيقية والغنائية، وأ

فيروز غابة من الأصوات الفائقة في عذوبتها، وشغفها، تمسرح الأشياء حولنا، تمنحها نوعا من الحسية الصائتة بإفراط،، اذ تستغرق بنا حدّ انها تصطنع عبر هذه الأصوات روائح وغوايات كثيرا ما تثير فينا نزعة الإنصات او التلذذ بجسدانية الجملة الموسيقية والغنائية، وأظنها تعود بنا في لحظات مفارقة الى ما يشبه الصحو حقا، مقابل مانحن مجبولين عليه من نوم كثير، وكلام كثير، وحروب كثيرة، وموتى كثيرين.
وسط هذا الصحو تبدو الغواية الصوتية الفيروزية ضرورية، ومحرضة على إعادة حسابات اللذة في النفس والمكان واللغة، لان الصوت الفيروزي يمارس نوعا من التطهير، ذلك الذي يوهبنا إحساسا عميقا بالنشوة والأمل، مثلما يمنح شفرات الأمكنة المدن الوانا اخر ومعاني اكثر استعدادا للتأويل، اذ يغسلها من غبار التاريخ والحروب والسياسة، ويضعها في سياق من التجلي واللذة، ويمنحها روحا اكثر إشراقا، لذا نقول دائما اذهبي يافيروز نحو كل مدننا المحاربة لكي يدرك المحاربون ان حروبهم وأوهامهم غير غنائية وغير قادرة على تلوين المدن بالبهاء..
فهل يكون صوت فيروز تغريبا بريختيا في وجداننا الشقي؟ وهل يمكن ان تتحول فيروز الى(الام شجاعة) تقدّم لسامعيها وصايا في بطولة الإنسان وتعالي روحه الملحمية؟ ربما نحتاج الى زمن من الفيروزات، لكي نواصل فعل الإدامة في ثقاتنا الانصاتية الشائهة، ولكي نهذب ذائقتنا التي يبست واختلط فيها غبار الحرب مع رائحة أصواتنا المتحشرجة بالعواء والغضب، الغضب على بعضنا البعض، مثلما هي حربنا على بعضنا البعض.
البعض يتحدث بغضب عن وجه اخر لفيروز، ويضع بعض مواقفها في خانات السياسة والدين والايديولوجيا بوصفها ذات حساسية مؤدلجة، والبعض الآخر يقول لماذا تتحدث فيروز هكذا!! وهي العابرة لكل شيء، حدّ انهم حولوها الى أيقونة لا شأن لها سوى ان تغني للجميع من الفقراء والأغنياء والحزبيين والثوار والرجعيين والقتلة ورؤساء الجمهوريات ورؤساء العصابات ورجال الدين والصنايعية ورجال الميلشيات....رغم ان فيروز المواطنة تملك حقا دستوريا وثقافيا في ان تقول ماتشاء وان تختار ماتشاء..
منذ سنوات وضعها البعض في زاوية ضيقة حينما غنت في دمشق، وكأن دمشق مدينة خارج التاريخ والعروبة والكتابة، وانها جزء من مدن الجحيم، واليوم يضعها بعض اخر في خانة الخيارات والخيارات المضادة، في محاولة لتهميش انسانية ومواطنية وغنى هذا المرأة التي يفوق صوتها في غناه اكثر من نصف آبار البترول العربية..
هذا البعض وذاك البعض الآخر راهن على فيروزته السياسية والطائفية، لكن فيروز التي تغني صحّت الجميع من نومهم وأوهامهم، اذ ظلت الأغنية التي تصوغها في صباحاتنا المكتظة بالغبار والعتمة عامرة بالوعي، وباذخة في سحرها ولذتها وتطهيرها، صوت يغني للانسان والأمل والحرية والجمال والمستقبل والانتماء، صوت عابر للمدن والأمكنة، عابر للذائقات المختلفات، والنفوس الضاجات المهووسات..
محنة فيروز تعكس في الجوهر محنتنا الثقافية، محنة الوعي العربي المحارب، الوعي الخشن والمتورط حد الهوس في خنادقه وحروبه القومية والطائفية والايديولوجية، فرغم تسابق الناس من كل حدب وصوب ليسمعوا دقات مطرها على شبابيك أرواحهم، الا انهم يريدون منها ان تظل بلا أحلام ولاخيارات شخصية، او ربما يضعوها في صناديق سردياتهم الشوهاء..
فيروز غنت لدمشق المدينة، مثلما غنت لبغداد وبيروت، التقت مع المدن في نوبة من العشق الافلاطوني، بادلتهن الاعتراف والغفران والبكاء والصحو، ليس لان هذه المدن تعيش حروب الغزاة وحروب الغبار وحروب الطوائف، بل لانها مدن تبحث عن الحياة والحرية، عن استعادة التاريخ بوصفه ليالي الأسحار والأمجاد والأحلام الباذخة....
فيروز جاءت الى هذه المدن من بيروت المدينة التي تقف عند حافة العاصفة، تحمل أغنيتها الرسولة، أغنيتها الكونية، أغنيتها المملوحة بالروح الرحبانية العالقة فينا مثل بوحنا، ومثل قبلات حبيباتنا، ترشّ على روؤس سامعيها صحوا لذيذا، صحوا يشبه النعاس ويناقضه في آن معا، قدمت في بغداد قصيدة بغداد والشعراء والصور، وفي دمشق مسرحية(صح النوم) لينبلج صباح جديد، يذكرنا بسيولة الايام حولنا، وان فزعنا من الآخر هو وهم ضال، اذ ان الآخر هو الذي يشاطرني الحلم، والحكاية ذاتها، والأرض ذاتها..
فيروز أعطت للمكان العربي دهشته، أفرغته من طغاته وحروبه، لتضعه عند سياق المكان الثقافي، مثلما أعطتنا ايضا اطمئنانا بان الرسالة الثقافية تكمن ايضا في الجمال الذي تصنعه الاغنية والمسرحية واللوحة والفيلم، اذ توهبنا هذه الصناعة الثقيلة مصولا او ترياقات تقينا سموم الحروب اليومية والحروب اللغوية والحروب السياسية..
نحتاج حقا الى جرعات فيروزية على الدوام لنتخلص من بقايا غبار المعركة!!!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر
عام

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حاوره: علاء المفرجيرواء الجصاني من مواليد العراق عام 1949، -أنهى دراسته في هندسة الري من جامعة بغداد في عام 1970، نشط في مجالات الاعلام والثقافة والفعاليات الجماهيرية داخل، -العراق حتى العام 1978، وفي الخارج...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram