TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: هوميروس: شعره الأصليّ تُرجم منثوراً

تلويحة المدى: هوميروس: شعره الأصليّ تُرجم منثوراً

نشر في: 4 ديسمبر, 2009: 04:52 م

شاكر لعيبيلا يوافق البعض على ترجمة الشعر الموزون في لغته الأم، منثوراً في اللغة المترْجَم إليها، ويفضّلونه موزوناً أيضاً في الترجمة. نجد في الأمر وجهة نظر مُحْترَمَةٍ صعبة القبول قليلاً لأن الاشتراطات الوزنية، خاصة ضمن الموازين الإيقاعية التي تحكم الشعر العربي التقليدي، تقود،
 في الأعمّ الأغلب، إلى حشو لا وجود له في النص الأصلي. مهما كانت براعة المترجم وسيطرته على أدواته فإن الوزن يُربك، على ما يبدو، البنية الشعرية الأصلية المُرهفة، بعضها أو كلها، ويُرصِّع النص الأصلي بما ليس فيه. حساسية اللغة الأم الضائعة بسبب الضرورات الوزنية والزوائد، نكاد نقول الإقحام، يَلُوْحان، في الأقل، في جلّ الترجمات العربية الموزونة للشعر التي قرأناها. وقد أشار الجاحظ منذ وقت مبكر كما نعلم للمشكلة بقوله: "الشعر لا يُستطاع أن يُترجَم ولا يجوز عليه النقل ومتى حُوّل تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجّب" فيه. وهو ما كُرِّرَ بعده كما في قول أبي سليمان المنطقي: "ومعلوم أن أكثر رونق الشعر ومائه يذهب عند النقل، ويجعل معانيه يتداخلها الخلل عند تغيير ديباجته". كلاهما كان يتكلم، في ظننا، عن الترجمة الموزونة المُفترَضة، طالما لم يكن أحد يفكر يومها بشعرٍ غير موزون على نمط "قصيدة النثر" مثلاً. لن نستعيد وجهات النظر في هذه المسألة، ونستذكر فحسب أن جملة من المؤلفين العرب، استشهدوا بشذرات من الشعر الفارسي ثم التركي الموزونين وترجموها في لغة نثرية لا غير. بل أن القزويني (ت 682هـ) في "أثار البلاد وأخبار العباد" استشهد لمرتين بأبيات عدة من الشعر الفارسي، منها للفردوسي: "مانند سنان كيو در جنك بشن" وأخرى لشاعر اسمه شمس الطبسي "له أشعار في غاية الحسن وأسلوب هو منفرد به"، ولم يترجمها البتة، ربما ظنا منه باستحالة ترجمة الشعر موزونا أم منثوراً، رغم لغته الفارسية الأم وإتقانه للعربية. في وقت متأخر يستشهد التونسي محمد السنوسي (1851م-1900م) في "الرحلة الحجازية" بشاعر تركي اسمه عصمت أفندي كتب قصيدة من عشرة أبيات، على بحر الرمل على ما يقول السنوسي، يقرض بها قصيدة الأخير، ويجيء فيها: برق فكري آن واحد ده مكاني بي بتون تلغرفدن دها سرعتله كزر سرتاسر ولا يترجمها السنوسي موزونة رغم معرفته بالتركية بل معرفته أنها على وزن الرمل، ويذكر بدلا عن ذلك: "المعنى: برق فكره، في آن واحد أتى على جميع المعاني من أولها إلى آخرها أسرع من التلغراف". لا مزيدَ على كتاب د. إحسان عباس "ملامح يونانية في الأدب العربي" الذي يتساءل ويستقري فيه ترجمة العرب للشعر اليوناني. لا نعثر في جميع النصوص، المُعتقـَد أنها شعرية الواردة من مظانها، على جملة أو بيت حكمي مترجَمٍ شعراً. لقد ترجمها العرب كلها نثراً. يستحق شعر هوميروس المترجَم المبثوث في مصادر التراث تجميعاً جديداً – وهو ما نسعى للقيام به - وفحصاً إلى جانب فحص د. عباس الثمين. ومنه نصوص يوردها القطب القيرواني (حوالي 426هـ) في كتابه (قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور) تنتمي كلها، بسبب طبيعة الكتاب إلى الشعر الخمريّ، وهي "قطع تتطلب مزيداً من البحث، لردها إلى أصولها، ومعرفة صاحب كل مقطوعة منها على التعيين" على ما يقول عباس الذي أعرض عنها بروح الباحث المُحترِس. ها هو ذا كتاب القيرواني المطبوع في تونس عام 1976بين أيدينا الآن. وملاحظة عباس ذات معنى لأن نص هوميروس في كتاب القيرواني يبدو قطعة واحدة متماسكة يشدّها موضوع واحد: الخمر. وفيها تتجلى، من بعيدٍ مرة ومن قريبٍ مرة، روح الشعر واستعاراته: "الشراب مصباح الظلام، وشفاء الأسقام، يجمع عز المجاهدة وحلاوة المسامرة، ويفوق الجلاس بلذة الاختلاس، ومن فضله إذا تمشّى في عظامك، وانتشر في أعضائك منحك صدق الحس، وفراغ النفس، وجعلك خالي الدرع، فسيح الباع، رخيّ البال، قليل الاشتغال، رحب الهمة، واسع النعمة، ينفي عنك طوارق العسر، ويسد عنك أبواب الخصاصة والفقر، فهو أخو الصبوة، وقسيم الشهوة، يردّ الشيخ في طبع الشبان، ويدعو الشبان إلى نشاط الصبيان". نظنّ أن الأمر يتعلق بقصيدة هوميروسية- أو في الأقل نصاً شعرياً يونانياً لغيره- قام المعرّبون بنقله إلى لغةٍ نثرية لعلهم استخدموا السجع فيها بدلاً من الوزن. يمكن أن يُفهَم التسجيع في سياق مسعى لتعريب النص أي تقريبه إلى الذائقة السائدة حينها. لكن هجر الوزن مع المحافظة على روح مخصوصةٍ له (يردّ الشيخ في طبع الشبان، ويدعو الشبان إلى نشاط الصبيان) -التي هي جملة لا نعثر على الكثير من أمثالها في المأثورات العربية-، قد تدلّ على أن المنحى العام في ترجمته كان يستبعد وزنه اليوناني ويكتفى بروحه، بنوعٍ من الأمانة التي لا نعرف حتى الآن درجتها. جميع النصوص المترجمة المنسوبة لهوميروس، منذ الأشعار التي ترجمها في وقت مبكر اصطفن بن بسيل، معاصر حنين بن إسحاق، مروراً بالتوحيدي والبيروني وابن أبي أصيبعة وابن العبري والشهرستاني وليس انتهاءً بالشهرزوري، ثم المعرفة بأوزان الشعر اليوناني التي يعدّدها الفارابي بدراية كبيرة، بما في ذلك

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram