تمر بي هذه الأيام مشاعر انتكاس مضاعفة، لأنني مثل من يعيش الحادث المؤسف مرتين. والسبب هو ولعي بكتب التاريخ منذ الصغر. واكثر شيء قرأته مؤخراً يدور حول القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، والايام الماضية غمستني في معارك لا تنتهي، من ريف المغرب العربي حيث يقاتل الامازيغ جيوش فرنسا، حتى مدينة حيفا وبدايات التناحر العربي الاسرائيلي. والتشابه بين النسخة المقروءة والنسخة المعاشة رهيب.
واحدة من فوائد الاستغراق بتفاصيل التاريخ، هي ان نتعلم الشك في كل شيء، من تتبع الحدوتات الصغيرة والمتناقضة حول ما جرى. وفي نهاري هذا وصلت بشكوكي إلى لغتنا المحكية والمكتوبة الشهية واللذيذة. فسحرها هذا لا ينفي انها لغة جرى استخدامها وتطويع صياغاتها عملياً، في اشياء يتعلق معظمها بإشعال النزاعات، لا فضها وتسويتها. وهذا ما حصل عبر تاريخنا في القرون الاربعة الاخيرة على الاقل. ولذلك فان القاموس المتاح في رؤوسنا يمنح المرء، حين يندلع اي نزاع، ثلاث او اربع قواعد للتفاوض، ثم يمد الرجل يده في جيبه ليستعين بقاعدة اضافية تضمن المطاولة والمناورة والاقناع، لكنه يجد جيوب الصياغات اللغوية فارغة مثل خزينة تاجر مفلس. حينها لن يكون معقولاً ان يجلس بصمت على طاولة التفاوض، فيستمر بالكلام، وبحدة هذه المرة، مستفيداً من خزين التشاتم والتلاعن والتحريض، ونهاية ذلك معروفة، سيوف تعانق سيوفاً، ومدافع تصرخ في وجه مدافع.
ليس العيب في اللغة طبعا، بل في اننا لم نتلق التدريب الكافي على تطوير فن الكلام مع ممكنات الافكار، لانتاج او اعتناق، مبادئ اغزر للتفاوض سلمياً. بالضبط كما اننا لم نمتلك التدريب الكافي على صناعة محرك او تشييد ناطحة سحاب. ولذلك نفقد الصبر ونسخر من لجان التفاوض الاجنبية، كما في شهادة دبلوماسي رفيع، لان الاجانب لا يملون من الكلام! بينما نحن نمل بسرعة، ونضيق ذرعاً، ونحب "التمسك بالمبادئ وعدم المساومة" فنهرع الى القتال، ونغطس في الدم، ونتذوق خسارات لا تنقطع.
التاريخ اذا تذكرناه كدرس لا كملحمة وبكائية، سيعلمنا الشك في القدرة الحالية لقاموس التفاهم. وهو شك حميد سيشجع لمنح وقت اكبر للتدريب على اداء اكثر جلادة وصبراً. وهو صبر لا يقل في اهميته ومعناه عن صبر المحاربين تحت وابل القصف. والمهم ان نملأ جيوبنا بقواعد تفاوض واقناع ومخارج من مختلف المآزق، لتقليل فرص ان نغرق في الدم كحمقى عاجزين.
الدرس الاخر الذي يخطر على بالي وانا استغرق في تاريخ نزاع عربي - عربي، او عربي - صهيوني، او عثماني - صفوي، هو ضرورة ان نعتاد على النسبية، في ظروف الحرب على الاقل. وسنحتاج هذا المبدأ كثيراً لتخفيف تطرفنا، ولنكون مؤهلين اكثر في التعامل مع الخصم. الان نشاهد كيف ان كل طرف يقوم بشيطنة خصمه، شيطنة تامة مطلقة. لكننا حين نقرأ التاريخ جيداً سيكون في وسعنا ادراك ان بعض مواقفنا تنطوي ايضا على نسبة من الخطأ والتجاوز. وان بعض مواقف الخصم كانت تحمل نسبة من الحقيقة. وان لا شيء هو حق مطلق او شر تام (في الحرب على الاقل).
التغافل عن هذه "النسبية"، سيورطنا في التمادي، وسيجعل الجزء الشرير من خصمنا، يخرب الجزء الطيب فينا. وحينها سنتحول الى قوم بدائيين نرقص فوق جثث بعضنا بسعادة غامرة، تحت مبرر اننا على "حق مطلق" وان المقابل هو "شر مطلق". هذه القناعة هي فتوى إبادة، لا للخصم فقط، بل ابادة الخير في دواخلنا. وحين نتحول الى وحوش فسنأكل كل شيء، القريب قبل البعيد!
عبر هذا النوع من المراجعة، ربما سيمكننا ان نتحرك ببطء لنخرج من غابة الغرائز الجامحة، ونحاول ان نلتحق بعالم تستقر قواعده وقوانينه، ولديه مهارة ان يبتكر الحل السريع، قبل اي انهيار سريع كالذي تعودنا حصوله في آخر ألف سنة. والا فنلتقيكم على "خير" في الالف الرابع للميلاد، بالجيوب الخاوية ذاتها.
اقرأوا واغرقوا في الشك
[post-views]
نشر في: 14 يوليو, 2014: 09:01 م