فاتني القول ، وانا اكتب عن تسخير الشعر الشعبي أداة في تمجيد الحرب والدم، انه ليس ذنب الشعراء انفسهم فقط. ما كانت المهرجانات الشعرية، التي بدأت في العام 1969 بالناصرية وانتهت بها عام 1973، هكذا. لم نكن فيها مطالبين بتمجيد شخص او حزب او طائفة ما. ثم ما كانت هناك هدايا. لا مسدسات ولا "ظروف". كان علينا ان نتدبر أجور النقل من جيبنا الى حيث يعقد المهرجان. كل ما كنا نحصل عليه السكن ووجبة طعام واحدة تأتي بدعوة من المحافظ او من الوجوه الثقافية والاجتماعية بتلك المحافظات. وأحيانا، كان شعراء المحافظة التي يقام بها المهرجان يبتلون بتوفير سكننا في بيوتهم. لم ترتبط القصائد بالمال او "التكريم" الا بعد ان دقت طبول الحرب. كل ما كنا نعود به الى بيوتنا ذكريات لقائنا وقفشاتنا واستمتاعنا روحيا بقصائد عذبة من مستوى "الخرانيب" لعبد الواحد معلّه صعودا الى ما هو اعذب وارق إنسانيا ووجدانيا.
ما حدث للشعراء الشعبيين في العام 1980، كان جزءا من حملة غسل دماغ واسعة تعرض لها الشعب كله سلاحها الترغيب والترهيب. لم تكن الحرب تمشي في فراغ بل بين تلال من الرعب والخوف تحيطها ألغام سرية لا يعلم صاحب الرأي المختلف متى تنفجر بوجهه او تحت قدميه. وان كان ما كتبته حول الشعر الشعبي والدم يعد ظاهرة واضحة، لكن هذا لايلغي تشخيص مواقف مشرفة لشعراء رفضوا تلك الظاهرة ونبذوها بطرق مختلفة. بعضهم ضحى بحياته وبعض انزوى بعيدا كي لا يكون جزءا من "تشريع" سفك الدماء باسم القائد تحت ذريعة الدفاع عن الوطن.
أسجل ان بعض الشعراء الذين لبّوا دعوة الحضور للمهرجان الأول ثم اكتشفوا انها كمين وساهموا بها مضطرين، اختفوا بعد ذلك ولم يشتركوا في أي مهرجان لاحق. وهذا هو سبب تسيد بعض الشعراء الذين سميتهم "النخبة" وكان عددهم قليلا جدا مقارنة بعدد من اشترك بالمهرجان الأول.
اذكر لكم حادثة شخصية: كلفت بإلقاء محاضرات تدريسية في احدى المدارس بمنطقة الحبيبة في العام 1981 كانت تربطني بمديرها علاقة طيبة وقديمة. هناك وجدت الشاعر يعرب الزبيدي من بين التدريسيين. لم التق به قبل ذلك بعدة سنوات. وبعد التحايا والقبل سحبني جانبا وطلب مني طلبا غريبا: ارجوك لا تخبر أحدا من التدريسيين باني شاعر شعبي! ليش؟ أخاف ان يدفعهم الاعتزاز بي لترشيحي للمهرجانات في هذه الأيام. وكان له ما أراد.
كما أجد من المهم الإشارة الى ان بعضا من "نجوم" المهرجانات الأولى عوقب بالإعدام، كالشاعر غازي ثجيل، لانهم همسوا لآخرين بندمهم بعد ان شعروا انهم صاروا أداة لتمجيد الدم والتطبيل للدكتاتور. كما ان الشاعر كاظم خبط احيل الى محكمة الثورة بتهمة يحيطها الغموض واللبس. الذي عرفناه فيما بعد هو انه قتل بحادثة مرور مؤسفة!
من بين الحماقات التي اعتبر صاحب كتاب "كليلة ودمنة" انها لا يقدم عليها الا أهوج ولا يسلم منها الا قليل: معاشرة السلطان وشرب السم للتجربة. فاتعظوا يا أولي العقول.
الشعر الشعبي والدم: عن الذين رفضوا
[post-views]
نشر في: 15 يوليو, 2014: 09:01 م