في الرابع عشر من حزيران سنة 1986 توفي في بوينس آيرس العظيم خورخي لويس بورخيس وفي العام ذاته فازت الأرجنتين بكأس العالم، وكان النجم ماردونا قد تألق كأفضل لاعب كرة قدم في العالم حينها، كانت قدمه ترسم صورة أخرى من صور السيادة .وكان الناس في القارة اللاتينية والعالم أجمع ووسائل الإعلام تنقل خبر الفوز وصور اللاعب ماردونا بما اجهز تماما على صورة وأهمية العظيم بورخيس، كواحد من أفذاذ القرن العشرين، وكنا نرى كيف مرَّ خبر وفاته عادياً، إلا من ندرة تتحدث هنا وهناك. هو الذي يقول "بأن الناس بحاجة إلى الانتماء الى نسق كبير، إلى شيء أكبر من انفسهم، فيوفر الدين هذه الخدمة للبعض، وكرة القدم توفره للبعض الآخر" .
وبين النسق المصغر الذي رسمته لنا صورة الكرة التي لعب بها ماردونا وبين النسق الأكبر الذي ترسمه صورة بورخيس، وهو يتصفح العالم بأكثر من ست لغات، بعكازه وخطاه الوئيدة وهو يقطع الطريق بين منزله ومكتبة بوينس آيرس، ثمة صورة للعالم وللإنسان فيه تلك التي يقترحها بورخيس لنا.
في حوارات متقطعة لنا مع بعض الأهل والأصدقاء يخلص البعض منهم إلى حقائق صادمة كبيرة حين نحدثهم في الدين والسياسة والأخطاء التي وقع فيها الخطيب هذا والمحدّث ذاك والسياسي الكبير هذا، لكن القليل منهم من تتضح تنازلاته بما ينسجم ويتساوق مع طروحاتنا، وقد لا تبدو الحياة في الشرق الممتد من المحيط عند آخر نقطة في المغرب إلى الساحل اليمني بمختلفة كثيرا عن ما يحدث في العالم لكنها كما يتضح أقل، فالحياة لدينا تنغلق على نسق وقلما تنفتح على غيره، فيما تتعدد الأنساق في العالم الحر، هناك . هل نقول بان الذين يتنازلون عن أنساقهم عندنا هم الأقل في العالم ؟ لكننا نعتقد أن المصلحين والأنبياء والولاة كانوا نسقنا المتوقف، ذاك الذي لم نمتلك القدرة على استبداله بعد .
يقول بورخيس "بأن السيادة باتت لصورة الشيء لا للشيء نفسه" ووفق هذه ظل شرقنا بملايينه واقعا تحت هيمنة "النسق" وما اكثر انساقنا في الدين والطائفة والمدينة والمسجد والحسينية وكرة القدم وسواها، الأمر الذي جرّنا إلى تحول الشخصية السياسية لدينا إلى نوع من النسق ايضاً، وهذا ما يعاني منه الكثير من مريدي الأشخاص في شرقنا المتوسطي، ولنا في سير الأبطال (التاريخيين) -هل كان بينهم من هو تاريخي حقاً- صورة التردي والتخلف الذي نعاني منه اليوم. وفي ضوء من المعادلة هذه انكمش الوعي العام لدينا، صرنا نسقاً ضعيفاً داخل نسق هو ضعيف بالأساس حتى تقزّم انتماؤنا إلى الحد الذي لم نعد نرى معه أبعد من وجود الشخصية هذه في حياتنا.
بين الذين اعرفهم شخص بسيط لا يمتلك وعياً واضحاً، ولم أعرف عنه موقفاً خاصا، في قضية عامة أو خاصة، لكنه ظل يرى الكمال والسداد في شخص شقيقه الذي يعمل جنّازاً بسيارته بين البصرة والنجف، لم يحدثني يوما عنهُ، عن نفسه، لكنه ظل يتابع مسيرة شقيقه اليومية متنقلا بين المدينتين ، فهو يقول: بان "عدنان" (شقيقه) وصل من النجف البارحة، وسيكون الفجر في الديوانية، ولن يمر بالحلة، لكنه سيأتي بعد العصر، وابنه طلب منه شراء دراجة، وهو الآن في البطحة، وربما خرج الآن من المطعم، حتى صرت أعرف الركاب الذين معه وثمن أجرة الجنازة والمطاعم التي يتوقفون فيها وهكذا تحولت حياته إلى نسق كبير اسمه عدنان، لم أسمعه يتحدث عن نفسه ابداً، هل بيننا من يتذكر احاديث الناس اليوم عن شخص واحد، نسق واحد، وقد تعاظمت الدنيا من حولنا؟
النسق بوصفه مهيمنة تراجع
[post-views]
نشر في: 15 يوليو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...