TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > النسق بوصفه مهيمنة تراجع

النسق بوصفه مهيمنة تراجع

نشر في: 15 يوليو, 2014: 09:01 م

في الرابع عشر من حزيران سنة 1986 توفي في بوينس آيرس العظيم خورخي لويس بورخيس وفي العام ذاته فازت الأرجنتين بكأس العالم، وكان النجم ماردونا قد تألق كأفضل لاعب كرة قدم في العالم حينها، كانت قدمه ترسم صورة أخرى من صور السيادة .وكان الناس في القارة اللاتينية والعالم أجمع ووسائل الإعلام تنقل خبر الفوز وصور اللاعب ماردونا بما اجهز تماما على صورة وأهمية العظيم بورخيس، كواحد من أفذاذ القرن العشرين، وكنا نرى كيف مرَّ خبر وفاته عادياً، إلا من ندرة تتحدث هنا وهناك. هو الذي يقول "بأن الناس بحاجة إلى الانتماء الى نسق كبير، إلى شيء أكبر من انفسهم، فيوفر الدين هذه الخدمة للبعض، وكرة القدم توفره للبعض الآخر" .
وبين النسق المصغر الذي رسمته لنا صورة الكرة التي لعب بها ماردونا وبين النسق الأكبر الذي ترسمه صورة بورخيس، وهو يتصفح العالم بأكثر من ست لغات، بعكازه وخطاه الوئيدة وهو يقطع الطريق بين منزله ومكتبة بوينس آيرس، ثمة صورة للعالم وللإنسان فيه تلك التي يقترحها بورخيس لنا.
في حوارات متقطعة لنا مع بعض الأهل والأصدقاء يخلص البعض منهم إلى حقائق صادمة كبيرة حين نحدثهم في الدين والسياسة والأخطاء التي وقع فيها الخطيب هذا والمحدّث ذاك والسياسي الكبير هذا، لكن القليل منهم من تتضح تنازلاته بما ينسجم ويتساوق مع طروحاتنا، وقد لا تبدو الحياة في الشرق الممتد من المحيط عند آخر نقطة في المغرب إلى الساحل اليمني بمختلفة كثيرا عن ما يحدث في العالم لكنها كما يتضح أقل، فالحياة لدينا تنغلق على نسق وقلما تنفتح على غيره، فيما تتعدد الأنساق في العالم الحر، هناك . هل نقول بان الذين يتنازلون عن أنساقهم عندنا هم الأقل في العالم ؟ لكننا نعتقد أن المصلحين والأنبياء والولاة كانوا نسقنا المتوقف، ذاك الذي لم نمتلك القدرة على استبداله بعد .
يقول بورخيس "بأن السيادة باتت لصورة الشيء لا للشيء نفسه" ووفق هذه ظل شرقنا بملايينه واقعا تحت هيمنة "النسق" وما اكثر انساقنا في الدين والطائفة والمدينة والمسجد والحسينية وكرة القدم وسواها، الأمر الذي جرّنا إلى تحول الشخصية السياسية لدينا إلى نوع من النسق ايضاً، وهذا ما يعاني منه الكثير من مريدي الأشخاص في شرقنا المتوسطي، ولنا في سير الأبطال (التاريخيين) -هل كان بينهم من هو تاريخي حقاً- صورة التردي والتخلف الذي نعاني منه اليوم. وفي ضوء من المعادلة هذه انكمش الوعي العام لدينا، صرنا نسقاً ضعيفاً داخل نسق هو ضعيف بالأساس حتى تقزّم انتماؤنا إلى الحد الذي لم نعد نرى معه أبعد من وجود الشخصية هذه في حياتنا.
بين الذين اعرفهم شخص بسيط لا يمتلك وعياً واضحاً، ولم أعرف عنه موقفاً خاصا، في قضية عامة أو خاصة، لكنه ظل يرى الكمال والسداد في شخص شقيقه الذي يعمل جنّازاً بسيارته بين البصرة والنجف، لم يحدثني يوما عنهُ، عن نفسه، لكنه ظل يتابع مسيرة شقيقه اليومية متنقلا بين المدينتين ، فهو يقول: بان "عدنان" (شقيقه) وصل من النجف البارحة، وسيكون الفجر في الديوانية، ولن يمر بالحلة، لكنه سيأتي بعد العصر، وابنه طلب منه شراء دراجة، وهو الآن في البطحة، وربما خرج الآن من المطعم، حتى صرت أعرف الركاب الذين معه وثمن أجرة الجنازة والمطاعم التي يتوقفون فيها وهكذا تحولت حياته إلى نسق كبير اسمه عدنان، لم أسمعه يتحدث عن نفسه ابداً، هل بيننا من يتذكر احاديث الناس اليوم عن شخص واحد، نسق واحد، وقد تعاظمت الدنيا من حولنا؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram