الكثير من المخرجين تخونهم مواهبهم ، فما أن يرتقوا سلم المجد حتى تبدأ لحظة الانهيار ، لأسباب تكون –ربما- خارجة عن سلطة العقل والروح نحو سلطة المؤسسات الإنتاجية الربحية ، فتضيع الموهبة أمام نفوذ المال ، أو ان الموهبة ضعيفة لم تجد من يحتويها فتتوه
الكثير من المخرجين تخونهم مواهبهم ، فما أن يرتقوا سلم المجد حتى تبدأ لحظة الانهيار ، لأسباب تكون –ربما- خارجة عن سلطة العقل والروح نحو سلطة المؤسسات الإنتاجية الربحية ، فتضيع الموهبة أمام نفوذ المال ، أو ان الموهبة ضعيفة لم تجد من يحتويها فتتوه بين دهاليز رؤوس الأموال الكبيرة ، هذا بالضبط ماحدث مع المخرج ( جان جاك بينيكس) وانا أعيد بعد سنوات مشاهدة فيلمه ( 37,2 ) صباحاً ، فبعد هذا الفيلم ذهبت شهرة ومجد بينيكس المخرج مع أفلام لا تتناسب وحجم الموهبة التي كان يحملها مثلما ذهبت جهودي عبثاً وانا ابحث ، بعد طقس المشاهدة ، من خلال مواقع النت عن هذا المخرج الذي كاد ان يكون يوما ما ظاهرة.
الصدفة وحدها هي من كانت ( الاكتشاف) الأهم للمخرج جان بينيكس ، فقد عرضت صالات باريس عام ( 1981) وبشيء من عدم الاهتمام فيلما اسمه ( ديفا) لمخرج شاب لم يسمع به أحد ، فقط بعض عشاق السينما من غامر بمشاهدة هذا الفيلم ، وما أن خرجوا منه حتى صرخوا بأعلى أصواتهم انهم أمام فيلم مغاير ، مختلف ومن طراز آخر ، وهكذا بدأ البعض يبشر الآخر بولادة فيلم مهم ومخرج جديد ، الفضول ساق نقاد السينما لمشاهدة الفيلم ليكتشفوا هم أيضاً مخرجاً جديدا يحمل حساً متميزاً ومختلفاً كان من الممكن ان يضيع عليهم بسبب لا مبالاتهم بالأفلام الصغيرة ، هكذا بين ليلة وضحاها اصبح بينيكس نجماً ، تبحث عنه الصحافة والتلفاز .
الشهرة المفاجئة جعلت بينيكس في فيلمه الثاني ، على عكس فيلمه الأول ، يجنح نحو الميزانية الكبيرة ويعتمد على حضور نجوم السينما الفرنسية كأبطال عنده ( جيرارد دي بارديو و ناتا شاكينيسكي) ، فكان ( القمر في المجاري) المعد عن رواية دافيد جوديس ، لم يبق بينيكس من الرواية سوى القشور واستقبل الفيلم في مهرجان ( كان ) بالزعيق والصفير ، هكذا بين ليلة أخرى وضحاها تدحرجت عبقرية (ديفا) من القمة نحو ( المجاري ) ، هنا انقسم النقاد بين من قال ان الفيلم الأول كان ضربة حظ وشطبوا على اسم بينيكس وبين من وقف متأملاً فاسحاً المجال للمخرج بفرصة أخرى ، فكان فيلمه الثالث الجميل ( 37,2 ) صباحاً عن رواية فيليب جين .
فيلم عن الحب وجنونه ، عن العشاق حينما تقودهم أقدارهم لاستهلاك كل طاقة الحب بحثاً عن حياة أخرى سعيدة مثالية في مجتمع مجنون ، متغير ، فتكون النهاية اما الموت أو الجنون ، بينيكس كان ذكياً هنا واثقاً من نفسه فلم يستعرض عضلات ( القمر في المجاري) التقنية ، بل ترك نفسه على سجيتها لتتحكم بالفيلم ، غادر الاستوديو وديكوراتها نحو الطبيعة والديكورات الحقيقية ، أهتم بتفاصيل السيناريو فأعطى الشخصيات حقها في قيادة الحدث ، مثلما أعطى للشخصيات الثانوية عمقها وحضورها ، وأدخل الكوميديا كعنصر إنساني يغذي مشاعر المحبين ، الألوان كانت عنصرا مهما بالسرد وليست زركشة حتمية ، فكان جمال الأسلوب في خدمة الحدث / الحكاية .
"زورج" بطل الفيلم يمارس مهنة متواضعة ويعيش حياة هامشية قرب البحر قبل أن يلتقي بـ( بيتي) التي تقلب حياته ، قبل لقائه بها كان مجرد شخصية مسكونة بالشك ، اللامبالاة، مستسلمة ، تائهة ، ما ان تعرف بها حتى أكتسب عنفواناً وإرادة ، "بيتي" تخرج "زورج" من صمته ، سباته ، عدم مبالاته ، الى آفاق أرحب وأوسع ، تعلمه ان يعيش الحياة كاملة بما فيها وليس على جرعات سعادة صغيرة هنا مرة ومرة هناك .
عن طريق الصدفة تكتشف بيتي يوماً مخطوطات لروايات كتبها زورج لنفسه ولم يفكر يوما بنشرها ، تتحمس للفكرة وتشجعه على المضي بالكتابة ونشر أعماله ، الحب يشتعل بين الطرفين ، عنفوان بيتي وفرحها بالحياة وتمردها الشبابي يقودها الى الجنون ، يزورها زورج في المستشفى ، يتألم لوضعها ، يبكي ولا يجد مفرا ، بعد أن تقتلع بيتي عينها في لحظة جنون ، سوى أن يخنقها ليخلصها ويخلص نفسه من العذاب ، وليلتحق بسرب العشاق الملعونين ، وليعود مرة أخرى وحيداً ، لكن بالتأكيد ليس تائهاً فقد عرف طعم الحياة بالحب ، حكاية بسيطة وعميقة كانت بين يدي بينيكس كقطعة شوكولاته لذيذة ينتهي سحرها مع لذة القطعة الاخيرة ، فيلم عن الحياة عندما تكون عشقا ، جنونا ، وموتا .
اكتشاف بينيكس الكبير في هذا الفيلم هو الممثلة ( بياتريس دال) نجمة امتلكت منذ فيلمها الأول هذا سحرا وحضورا وجمال النجوم ، لتصبح فيما بعد نجمة السينما الفرنسية ، ومثلما صعد نجم بياتريس دال ، خفت نجم المخرج بينيكس بعد هذا الفيلم ، فلم نجد له سوى أفلام غير مهمة على مدار عمره الفني الطويل من بينها فيلم مع النجم ميشيل بيكولي ، ليبقى التساؤل قائماً كيف ضاعت موهبة مخرج (ديفا) و ( 37,2 ) صباحاً ؟ هل نضبت الموهبة أم ننتظر فرصة أخرى مع خريف العمر كي يتحفنا بفيلم أخير خالد ؟؟