وسط العديد من كلمات التقدير التي تلقاها الناقد السينمائي جَي هوبرمان ، بعد فصله من صحيفة " فِلج فويس " قبل شهرين ، جاءت من تلميذ سابق اسمه مات سنغر . جمع سنغر ، الذي هو الآن كاتب ومضيف تلفزيوني ، قائمة بالأشياء الأكثـر أهمية التي تعلمها من الحلقة الد
وسط العديد من كلمات التقدير التي تلقاها الناقد السينمائي جَي هوبرمان ، بعد فصله من صحيفة " فِلج فويس " قبل شهرين ، جاءت من تلميذ سابق اسمه مات سنغر . جمع سنغر ، الذي هو الآن كاتب ومضيف تلفزيوني ، قائمة بالأشياء الأكثـر أهمية التي تعلمها من الحلقة الدراسية لهوبرمان في جامعة نيويورك . تتضمن القائمة جزءا من نصائح لفظية ــ (( راقبْ الكلمات الزائدة . لو كانت ثمة كلمة قصيرة ، استخدمها )) ؛ (( نفِّسْ عن غضبك . في النقد ، أفضل لك أن تكون غاضبا من أن تكون مكتئبا )) ــ لكن الرسالة الأساسية والأكثـر أهمية هي هذه : (( إيجاز الحبكة يدمّر اوتوماتيكيا نقد الفلم.))
إن كان هذا صحيحا أم خاطئا ، تعتبر الموجزات أوطأ أشكال الكتابة النقدية . في ثلثي الطريق داخل " زونا " ، كتابه الفريد المميّز حول فلم " ستالكر " ( 1979 ) لاندريه تاركوفسكي ، يعلن جف داير : (( أكثر الأشياء التي أكره هي عندما يبدأ أحدهم بتلخيص فلم ما ، في محاولته لإقناعي بمشاهدته . )) إنه توكيد مفاجئ ــ برغم انه يبدو أقل من ذلك لو كنتَ على معرفة بكتب داير الأخرى ، سواء أكانت عن الجاز ، عن الحرب العالمية الأولى ، أو كانت عن دي أتش لورنس ، والتي كلف فيها نفسه مجهودا زائدا في دمج الشكل والمضمون بطريقة لافتة للنظر ــ لأن " زونا " هو ملخص واحد طويل لفلم بشكل محاكاة ، تعاد كتابته لقطة بعد لقطة .
بزمن متواصل يتجاوز المائة وستين دقيقة ، " ستالكر " نفسه هو فلم طويل . الى جانب " سولاريس " ( 1972 ) ، هو أكثر أعمال المخرج الروسي شهرة ، مجتازا رحلة شاقة يقود فيها رجل في منتصف العمر ، معروف بستالكر [ المتعقب ] ، كاتبا وبروفيسورا عبْر أرض قاحلة الى منطقة عسكرية تدعى ’’ الزون ‘‘ ، تقع في وسطها ’’ الغرفة ‘‘ ، التي يقال إنها تحقق أعمق الأماني لمن يخطو داخلها .
قصة الفلم ، المبنية بتصرّف على رواية صدرت عام 1971 للأخوين اركادي وبوريس ستروغاتسكي ، أشبه بالخيال العلمي التي يتنبأ موقعها الشبيه بسفر الرؤية ومصادفاتها المنتظمة ( إطلاق رصاص ، انفاق تحت الأرض ، قنوات مشبعة بالمياه ) ، ناهيك عن موضوعة البحث ، بألعاب الكومبيوتر في وقتنا الحاضر . الى حد كبير جدا ، بحيث ان شركة اوكرانية أصدرت لعبة بعنوان " ستالكر " ، كانت مستلهمة جزئيا من الفلم . مع طاقمه من الرجال حليقي الرؤوس الذين يشبهون نزلاء الغولاغ ، وبطوبغرافيته المدمَّرة وطرحه لأسئلة جوهرية حول سعادة البشر ، غالبا ما تُرجِم فلم تاركوفسكي بكونه استعارة عن الحياة في ظل الشيوعية . داير ، الذي ثابر بجهد على قراءة الجزء الكبير من التعليق النقدي الملهم من " ستالكر " ، لا يلوّح فقط الى تلك القراءة الخاصة ، بل يلفت الانتباه ايضا الى كيفية النظر اليه باعتباره عملا تكهن مسبقا بمناطق المنع التي أقيمت في اعقاب كارثة تشيرنوبل في 1986 .
لكن داير ، رغم اغتياظه من الضيق في أفق التفكير لمثقفي بلدنا هذا ، ومع أن العديد من مقالاته وكتبه نشرت في الخارج ، فإنه ظل دائما كاتبا انكليزيا . يعبّر هذا عن نفسه في أسلوب " زونا " ، فهو بقدر ما يصوّر المتعقب ورفيقاه روّادا ميافيزيقيين ، فإنه يظهرهم أيضا كبلهاء يتعثرون في طريقهم وكأنهم خارجون مباشرة من صفحات جيروم كي جيروم في " ثلاثة رجال في قارب " .
على حد سواء ، كما كانت هناك إشارات واضحة الى ميرلو- بونتي ، جيجيك ، هايدغر ، هناك أيضا إشارة نقدية شاردة لجيريمي كلاركسون [ صاحب برنامج تلفزيوني بريطاني عن السيارات ] ( (( الزون هو مكان القيمة التي لا تقبل التسوية والتي لا تشوبها شائبة . إنه واحد من الأقاليم القليلة ، أو الوحيد ، الذي لم تباع حقوقه لـ " التوب غير " )) ) . وثمة هوامش عَرَضية فكهة ، واحدة منها يقتبس رأي ميك جاغر عن جان- لوك غودار ، الذي أنجز معه لتوه العمل في " تعاطف مع الشر " .
قد يجد بعض القرّاء هذه العبارات القصيرة المكررة والكلام الذي يقال على انفراد ، غريبة أكثر منها منوّرة . وقد يتساءل البعض الآخر إن كانت عبقرية داير دائمة التطور في الكتابة الهزلية لا تترك له الآن الوقت أو الرغبة لمتابعة الغنائية الجارحة التي تبدت في أعماله السابقة ، مثل " لون الذاكرة " ( 1989 ) و " عبْر باريس " ( 1998 ) . ما هو حقيقي بلا شك ان السينمائيين النشطين المفطومين على نظرية ديفيد بوردويل في الفلم سيرون في " زونا " كتابا غير مطبوخ بما يكفي . هل سيبالي داير ؟ إن لم نتجاهل وصفه للنقد الاكاديمي بالعقيم على نحو ثابت ، فأنا أشك بذلك .
بالنسبة لي ، إنه بالأحرى أمر مدهش أنه كتب عن تاركوفسكي بطريقة عامّية بقدر ما هي علمية . إذ ينقذه داير من براثن جماعة أفلام الفن ، ويخلصه من الصنمية ، ويعقد صلاتا بين المشهد الطبيعي المدمَّر في " ستالكر " ومحطة القطار المهجورة التي غزتها النبتات الشائكة في لكهامبتون ، قرب مسقط رأسه في سنوات الستينات .
في الوقت الذي يظهر فيه ديفيد كاميرون ليعلن ان فلم " خطبة الملك " ذروة صنع الأفلام ، ويكون أي فن بعيد الطموح محل هزء كفن ظلامي أو محكوم بالنخبة من حرّاس ثقافة وسط انكلترا ، فمن المهم بوجه خاص التوكيد على أن مشاهدي الأفلام المهتمين يمكن أن يتمتعوا بأعمال أكثر تحديا من " فلم الوسطيين " .
من المبهج قراءة داير مدافعا عن متعة مشاهدة الأفلام ، لا بالشكل المنزلي والتافه على أقراص الدي في دي ، لكن في قاعة السينما . " ستالكر " نفسه ، الذي هو تجربة غامرة بقدر ما هو عرض بصري غير اعتيادي ، يفقد قوته الجاذبة حين يُشاهَد في المنزل . يتحدث داير هنا عن (( إمكانية السينما كمكان لرحلة حج شبه دائمة )) .
بعيدا عن الشكلية البارعة الأداء للكتاب ، وبالرغم من الشك بأنه يمكن النظر الى الكتاب كمشهد رفيع الثقافة عن تجدد الحياة ، فإنها قدرة داير في لحظات مثل هذه هي التي تجعل من قرّاءه حجاجا وتقودهم في رحلة للبحث عن حقائق حول الحب وحول طبيعة السعادة ، التي تجعل من " زونا " إنجازا مبهجا .