TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العراق بصفته "منظراً طبيعياً"

العراق بصفته "منظراً طبيعياً"

نشر في: 18 يوليو, 2014: 09:01 م

هل سيكون الحديث هنا عن العراق بصفته السياسية أم الجغرافية أم عن الجمال الطبيعيّ فيه؟. يبدو لي أن (المنظر الطبيعيّ) بصفته نوعاً فنياً، قد يُمَكّن المرءَ من رؤية بقعةٍ ما باعتباراتها الأخرى المذكورة، لذا فإن المعنى اللاتينيّ للمفردة الأصلية المعبِّرة عن المنظر الطبيعيّ (paysage): بلد ما ممنوح للنظر، قد يساعدنا في فهم أننا لسنا فقط أمام الجماليّ وإنما في مواجهة الجغرافيا والسياسة كليهما، فالكلمة تدلّ اشتقاقياً على بقعة موضوعة أمام العين، وهي تشير لذلك إلى بلاد محدّدة بتخوم. كان الرسم، بداية القرن الخامس عشر، بصفته فعلاً لإنتاج البلاد وتجميعها تصويرياً محض طرفة لا يمكن تصديقها، لذا استغرق المنظر الطبيعيّ وقتاً قبل أن يصير نوعاً فنياً مستقلاً (نقطة الانطلاق المقترَحَة هي لوحة العاصفة لجورجونيه في عام 1507).
إن ترتيب العناصر المنتقاة لتقديم البلاد في فن التصوير ينطوي على وجهة نظر. في هذا السياق يلعب (المكان) دوراً أساسياً. هذا المكان وقع اختصاره إلى عناصر محدّدة لكي يعبّر عن الجوهريّ من وجهة نظر الفنان، ثم لكي يعبِّر عن عاطفته إزاء المكان الذي لن يغدو بعد رديفاً (للطبيعة) وحدها. هذا ما يفسِّر لنا أن وجهة نظر فنان عراقيّ مثل عبد القادر الرسّام عن المكان العراقي، ليست قط من طينة وجهة نظر روّاد الفن العراقي المعاصر عن هذا المكان نفسه. يكاد البلد يتحوّل، في رؤية عبد القادر، إلى بستان، إلى جمال طبيعيّ نقيّ مع حضور إكسسواريّ لبعض الحيوانات الوديعة وأشباح بعيدة من البشر، حتى أن المرء سيتساءل: هل هذه فعلاً ضفاف دجلة على بغداد نهاية القرن التاسع عشر؟. إن فكرة (المنظر الطبيعيّ) عند عبد القادر الرسّام بصفته (بساتين) زاهية إنما هي مرة أخرى تعبير رومانسيّ متأخر أي وجهة نظر شخصية عن المكان والبشر، مائعة قليلاً، ولا علاقة لها بالواقع كثيراً.
لنضف توضيحاً: إن اعتبار الطبيعة هذه، بحد ذاتها مشحونة أصلاً بالجمال وبشكل تلقائيّ، لم يكن معروفاً عند اليونانيين. أما في الوعي البيزنطيّ المسيحيّ فيختفي كذلك (المنظر الطبيعيّ) المستقل بذاته، بسبب الاعتقاد باستحالة تمثيل الله وإمكانية تقليد أعماله، رمز قدرته. وهو يختفي بدوره في الفن الإسلاميّ رغم مفهوم (الحديقة الفارسية) التي لا مجال للحديث عنها هنا.
في عصر النهضة فقط جرى استخدام المنظر الطبيعيّ للتعبير عن رؤية حضرية مثالية وعن تصوّر سياسيّ منبثق عنها. كان المنظر الطبيعيّ في البدء مرئياً من خلال إطار نافذة، في لوحات مهمومة بتقديم مشاهد داخلية (مثل بعض لوحات روفائيل عن المادونا عام 1503). بعد ذلك سيأخذ هذا المنظر الطبيعيّ مكاناً متزايد الأهمية حتى يصل إلى إشغال كامل سطح قماش اللوحة. وبالتوازي مع ذلك كانت شخصيات المَشاهِد الدينية في الخارج تتقلص، لتنتهي بالترميز لها عبر عناصر من الطبيعية نفسها. لم يشهد المنظر الطبيعي ازدهاره الحقّ إلا في القرن السابع عشر، حيث ظهر أول تمثيل لمنظر طبيعيّ مستقل كلياً وبقصديّة تامة على يد جواكيم باتينير.
بعدئذ توالت الرؤيا. في الحقبة الكلاسيكية قدّمت الطبيعة بشكل مثاليّ، متكلّفة العظمة، مُروَّضة من قبل البشر. وكان تمثيلها بالتالي قليل المصداقية رغم واقعية التصوير، وفي الحقبة الرومانتيكية منذ أوائل القرن التاسع عشر ظهرت الطبيعة في إطار من الشفافية الصافية والغموض والصوفية، وبدءاً من المدرسة الانطباعيّة وقع نهائياً استحضار الطبيعة بصفتها نوعاً فنياً رئيسياً جوار الأنواع الأخرى، لكن في سياق سيولةٍ شفّافة بين الطبيعة المضاءة والبشر، وبتدقيق قليل بالتفاصيل.
أيّ مشهد يمكن أن يقدِّمه الفنانون للعراق اليوم بصفته "منظراً طبيعياً"؟، أيّ بستان، وأيّة عظمة، وأيّة هيمنة للبشر على المكان، وأية روحانية صوفية، وأيّ تدفُّق بين المكان والبشر؟.
لا شيء من ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. قارئه

    ويبقى عراقنا الأروع والأبهى، اللوحة التي تزداد تألقا وجمالا، المتجاوزة لكل الترهات .

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram