ناظم عودةما دام ظني بكم سيئاً لدرجـة كبيرة، قد تسألون: لماذا إذن أقصّ علىكم هذا الذي حصل؟ وماذا أريد منكم؟ ــ قصة حبّ مجوسية ــ الراوي والقارئ من يقرأ رواية عبد الرحمن منيف (قصة حبّ مجوسية) سوف يلحظ شجاراً لا ينتهي بين الراوي والقرّاء المفترضين،
فهو لا يكفّ عن توجيه اللوم والانتقاد والوعيد لهم، ولا يعدم القارئ الحقيقي فائدة من هذا الشجار، الذي يخمّن فيه الراوي معارضة من هؤلاء القرّاء لأفعاله وأفكاره، لأنه سيئ الظن بهم لدرجة كبيرة. ويكشف هذا الصراع عن بنية سيكولوجية تتحكم في أداء الراوي، ويكشف كذلك عن الأحكام الأخلاقية التي تترتب على سلوكه، فهو يفتش باستمرار عن مسوغات لعلاقة تعدّ محظورة في نظر الأديان، كما في تشريعات السيد المسيح في هذا الشأن، التي يذكرها الراوي بنوع من الرفض. فالانحراف عن حكم من الأحكام، يفضي إلي خلق حال من التضاد بين الصورة الأصولية، والصورة الرافضة التي علىها الراوي. وهو يعلم بهذا الحرج، ولذلك يبتكر وسيلة للتخفيف من غلواء توتره النفسي، وهي تعرية منطق القارئ المعارِض ضمناً لسلوك البطل. ويبدو لي أحياناً أنّ صوت القارئ المكرّس نصّياً في الرواية، هو الصوت الداخلي للبطل، فثمة نزاع عنيف ينشب بين داخل الراوي وخارجه. فالعرف الاجتماعي والقاعدة الدينية لفعل الحبّ، لا تتهاون في عشق النساء المتزوجات، لكنّ هذا الحكم الأخلاقيّ لا يتقيد به بطل قصة حبّ مجوسية، فهو يخترق القاعدة الأخلاقية بمسوّغ سيكولوجي محض. ويؤدي به هذا الاختراق إلي صراع من نوع خاص، بين النشاط الملحوظ للقوي السيكولوجية الطليقة من أعنتها، وما يسمي بالأنا الأعلى التي تقاوم تمرد الرغبات على هذه الشاكلة. يتبني الراوي، الذي يعشق امرأة متزوجة، وجهة نظره الباطنية بقوة، فيصغي إلي صوت قلبه وحده، ويسعي جاهداً إلي تصوير الكدمات التي لحقت به من جرّاء مكابداته. فهو يشعر أنّ هذه المأساة الباطنية تستحقّ أنْ تُبلَّغ إلي القارئ بالكلمات، ليكتب (سيرة قلب) يخفق بين جنبيه، أو يريد أن يقدم اعترافاته أمام القارئ، نظير الاعترافات التي تجري في الكنائس، كأنه يشعر بخطيئة ويريد أن يكفّر عنها. لكنّ العلاقة بين الراوي والقارئ في هذه الرواية، لم تتسم بالتوافق، أو الإصغاء كما في الاعترافات الحقيقية، فالراوي يواجه اعتراضاً شديداً من فئة من القراء، لكنَّه يستميل فئة اخرى، وهنا يبرز تخطيط الصنعة الأسلوبية من لدن المؤلف الحقيقي، الذي أراد أنْ ينشئ حكاية من لحظة التعارض بين فئات القرّاء والراوي. الرواية ذات البعد السردي الواحد لا تتضمن رواية (قصة حبّ مجوسية) تعقيداً فنياً، يمكن أن يقف حجر عثرة في طريق القارئ، الذي يجمع خلال زمن قراءته مجموعة من الجمل السردية، القادرة على تكوين الفحوي النهائية للعمل من جهة، والقادرة على تكوين حكم نهائي حيال الرواية كلّها. فالبناء السردي في هذه الرواية يقوم أصلاً على الصوت الواحد الباطني للراوي، ومن هنا يمكن وصف (قصة حبّ مجوسية) بأنها رواية تعتمد البعد الواحد في سرد الحكاية، وقد ساهمت هذه التقنية السردية في إثارة الشجار بين الراوي والقارئ على طوال هذه الرواية. فهذا الراوي يبني هرماً من القيم الذاتية، ويرتقي إلي قمته، وينظر إلي العالم الذي يحيط به، ولذلك فإنّ الفارق بين الأعلى والأدني هو السبب الأساسي في نشوب الصراع بين الراوي والقارئ. فثمة جزء من الصراع غير مذكور في السياق السردي لهذه الرواية، يتلاقي فيه الراوي والقارئ معاً ليتجادلا حول مجموعة من القيم المتعارضة، تشكل صلب هذا الصراع غير المذكور. فالقيم التي يعتنقها الراوي، والخاصة بعلاقته مع امرأة متزوجة تدعي ليليان، ليست قيماً معيارية ثابتة، بل قيماً ذاتية محضة. وعلى هذا الأساس، فإن الراوي يقدّم نموذجين من الصراع: الأول يتبني الفلسفة الذاتية، التي تقوم على المنطق الفردي، وعلى فرضيات فرويد وهوسرل، غير الظاهرة نظرياً في السياق السردي، وإنما مُضَمَّنة تضميناً يتيح للراوي أن يعتنق أفكاراً ذاتية، يفسر بها قضيته التي يدافع عنها في وجه خصوم مفترضين. والثاني (وهم القرّاء المفترضون) يتبني التفسير العقلاني للقضية الأساسية، أي عشق امرأة متزوجة. وهكذا ينشأ الاختلاف في القيم استناداً إلي هاتين الفلسفتين، الفلسفة الذاتية، والفلسفة العقلانية، وقد كان هذا الصراع الفلسفي، هو الجزء غير المذكور في السياق السردي لرواية (قصة حبّ مجوسية)، ومنذ البداية أراد الراوي أن يجد وسيلة فنية لتفجير هذا الصراع، فوضع صيغة نصّية تقوم على جعل القارئ طرفاً نصيّاً في البناء السردي. وفي مقابل هذا الصراع الثنائي، ثمة صراع ثنائي آخر، ذو صلة بالبناء الفني لهذه الرواية هو صراع الأجناس، جنس الشعر وجنس النثر: قلت لنفسي بنزق: أيتها العيون التي انفجرت في ظلمة الحياة التي أعيش فيها. سوف أعبدك. أنا مجوسيّ أكثر من مجوس الأرض كلهم. صرخت دون صوت وأنا أنتفض مثل ديك مبلول: الزجاج بيننا يحصد خفقة القلب ثم يعجنها كتلة نار ويدحرجها.. ثم يأتي المطر ليذيب لذة الحلم. ليست هذه الرواية رواية أصوات متعددة، فهي لا تكترث بأية وجهة نظر اخرى غير وجهة نظر الراوي، الذي يضيق ذرعاً بالآراء المفترضة للقراء، قال
تقنية سردية تثير شجارا بين الراوي والمروي له
نشر في: 4 ديسمبر, 2009: 06:08 م