TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > عبد الرحمن منيف .. غياب الشاهد

عبد الرحمن منيف .. غياب الشاهد

نشر في: 4 ديسمبر, 2009: 06:13 م

علي حسن الفوازبعد سنوات من الموت الذي يشبه المنفى كثيرا، الموت الذي يؤجل مابعده، مازال عبد الرحمن منيف يمارس لعبة الحياة بنوع ما يتركه الاثر الغرائبي، الاثر الذي يباغتنا بمراثي اصواته الطاعنة والعالية، يستفزنا على استعادته مشروعا للقراءة.
 قراءة ما حولنا من فجائع عربية، فجائع تستغرق المكان والزمان. ليكون اكثر الموتى استعادة لفكرة الحياة واكثرهم رميا للحجر على سطوح القهر الاجتماعي والخراب الداخلي، وربما اجداهم مهارة في التفرج على احزاننا القابلة وهزائمنا المكررة .. علاقة منيف بالموت علاقة حاضرة ومشدودة بقسوة الى مستويات متعددة من مهيمنات القسوة والغياب والاقصاء، هي شواهد في اغلب اعماله الروائية، وهي ثيمات نافرة وضاغطة، لايمكن الفكاك عن سطوتها ومؤثرها. ولهذا فان قراءة خطاب الموت في السيرة ( المنيفية )هي مقترح مفتوح لاعادة قراءة فكرة الحياة المتورطة في حالة اشتباك دائم وكشف دائم او ربما في لعبة انتاج اوهام دائمة. واحسب ان هذا الموجّه القرائي، هو الذي يجعلنا امام احتمال قراءته دائما، لانه كاتب متوغل في نصوصنا الخبيئة، في اوجاعنا المكشوفة، وفي صراعاتنا غير المجدية، في خراب احلامنا. فضلا عن ان مقترح قراءته تلك يكتسب اهميته من خلال ما يتيحه من ابراز معطيات واضحة وتحققات تكشف عن العوالم الجوانية في الواقع العربي وما ينوء به من صراعات وجودية ومفهومية، ومن علامات انثربولوجية تهجس بانهيار النموذج الرومانسي الثوري للبطل القومي واليساري التقليدي الذي جعل من شرقه المتوسط (المكان ونمط العيش الصانع للازمات) حاضنا انطولوجيا للرعب، يشيء باشكالات ما يمور به السردي والواقعي. مرت خمس سنوات على رحيل عبد الرحمن منيف، ومازال العقل الثقافي العربي يبحث في مدن الملح وارض السواد عن ذاته، وهويته وتشوهه واسئلته..فهل ان هذه المدن تخصنا حقا؟ وهل نحن مجدبون فيها برعب المكان، وازمة ان يكون هذا المكان صانعا لرعبنا ايضا؟ وهل ان شرقنا المتوسط مازال مكانا مفتوحا على اقصاء دائم لجلود واحلام مسجونيه العاطلين عن البهجة؟ وهل ان حاضرنا بكل ما يحمله من اغترابات وحروب صغيرة وكبيرة، واحزان دامية يشبه ما تركته لنا مدن الشرق المتوسط ومدن الملح والسواد من خواء وهزائم وخيبات ومرائر وخيانات؟ هذه الاسئلة هي جزء من فجيعة عبد الرحمن منيف الذي اكتشف خديعة احلامه الثورية، وخطيئة الايديولوجيا والتاريخ، وربما خرابه الداخلي(نموذج بطله رجب ) لذا هو يقترح في كتاباته سردا مضادا، سردا يناظر التاريخ ويناهضه تماما، سردا يحرضه على ارتكاب فكرة موته واغترابه(عن المكان)رغم كل احلامه المحتدمة! موته الذي كشف عن تداع الجسد العربي، والعقل العربي، والمكان العربي. همومه العاتية كشفت هي الاخرى عن مخاوفه من فوبيا السلطة وطوطمها، السلطة القادرة على الرعب والاخصاء والموت. اذ تحول المكان العربي تحت هيمنتها الى سجن كبير، وتحوّل السلطة العربية ذاتها الى سجّان اكبر. يموت عبد الرحمن منيف منفيا عن كل الامكنة التي توزع فيها، يموت غريبا في (مقبرة الغرباء) مثل الغرباء الاخرين الذين شاطروه مطرودية الامكنة(الجواهري، البياتي، مصطفى جمال الدين، هادي العلوي) يموت عبد الرحمن منيف بعد تراجع الاسئلة الى حدودها الاولى وربما الى عمق السواد الذي هبط على ارض السواد ليقول للاحياء الموتى وداعا، فما عاد الزمن صالحا لابطال مهذبين عالقين باصابع السماء، انه زمن الحرائق والمطابخ والنساء اللائي يشبهن المؤامرات والفضائيات الصابرات على بداوتنا.. وسط هذا الزمن ووسط حاجتنا الى فقهاء واصحاب وصايا لايشتمون الرافضة يموت عبد الرحمن منيف، وكأنه بموته هذا يحرضنا على مواجهة اسئلتنا المرعبة والمرعوبة، اسئلة الخراب، اسئلة الوصايا القديمة والامكنة القديمة والمنابر التي انتجت نعاسنا وبلاغتنا البليدة .. كان عبد الرحمن منيف ينسج في فضاء انتماءاته المتعددة هويات ناتئة، تخوّل له ممارسة لعبة(الاحتجاج) على (الثقافي القومي) بكل فخاخه الموهومه بامجاد عاطلة. يستقرئ عبر حفرياته السردية طبائع الموجودات في المكان، تشكلاتها، صراعاتها، حتى يبدو وكانه عالم في(الاناسة) يؤسس اشتغالاته في ضوء صراع كائناته العالقة في اثر لم يعد قائما، اثر يستعير من متحف التاريخ الكثير من صناديقه وحكاياته. اقترح كتابة مضادة لمواجهة ازمة المتحف والصناديق والامكنةعبرقراءة سرديات(السجن، الاغتراب، المدن المالحة، المدن السوداء، الاشجار التي تغتال مرزوقها، التوهم المجوسي) وهذه السرديات بما تحمله من استعارات وشفرات لغوية هي الاقرب الى ما يشبه النص المضاد، النص التطهيري، الذي يضعه امام لعبة اعتراف سردي هائلة..عبد الرحمن منيف في هذا السياق هو اكثر الروائيين العرب كتابة لسردية الاعتراف، الاعتراف الذي يقوم على تقنيات روائية تنحني على تفكيك المكان، والخطاب والوعي، وتلمس ازمة الشخصيات من خلال هذه التقنية، فضلا عن استغراقه في كشف مستويات الزمن السياسي الماكث في الثبات والمقصي عن اية غواية في التحول... ان نمط الكتابة التي استغرقت عبد الرحمن منيف حولته الى خصم شعبي للدولة التقليدية التي ورثت غلاظة الحكام القدامى وقسوة اغتراب

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram