وأنا أقرا اللوائح الثلاث التي حددتها داعش لمسيحيي الموصل،( الدخول في الدين الاسلامي، مغادرة الموصل نهائياً أو القتل بالسيف) رحت أرتجف وانا جالس في البيت، عند آخر نقطة في الجنوب، كنت أسمع طقة القفل الأخيرة في أبواب أولئك المسيحيين، مثل انفجار مدوٍ أفقدني بهجة ساعات الصباح الأولى. لا أعرف كيف انفجرت كلمات أغنية فيروز (الابواب) أمامي، وهي تتحدث عن صورة الوداع الأخيرة التي ستظل مرسومة في أعين النساء والرجال والأطفال عن آخر التفاتة لأعينهم وقلوبهم، ظلت فيروز تروي حكايتها عن الأبواب التي تغرق برائحة الياسمين، الأبواب المشتاقة الحزينة، الابواب المهجورة المنسية، تلك التي حفروا أعمارهم فيها، وبين تتبعي لخطى الراحلين إلى المجهول، الفارين من الدائرة الحمراء التي أحاطت حرف النون، والتي وسمت بها أبوابهم كانت فيروز تردد: فكّر راح اشتاقلك... فكر، عا ها الباب راح أنطر سنين ...
مع أن كثيرين تحدثوا عبر وسائل الاتصالات في تعقيبهم على قرار داعش هذا أكدوا فيها على أن النصوص والاحاديث تؤكد صحة ما ذهب اليه هؤلاء الداعشيون، مستندين إلى الآي تارة وإلى الحديث تارة اخرى، ومثل ذلك قال غيرهم بشأن فرق الامر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (سيئة الصيت) في السعودية، وكذلك وصف البعض قضية تأسيس وعمل المليشيات في مصر والعراق وسوريا ولبنان وأتوا على عموم فكرة بناء الاحزاب الدينية العربية. إلا أني ارى أن النصوص تلك والقرآن بالذات كما قال الامام علي (حمّال اوجه) هو الذي قال له ابن عمّه النبي : (لا تحاججهم بالقرآن فإنه حمّال أوجّه، تقول ويقولون). لكن الاهم من ذلك، لا بل قل الأغرب في القضية كلها أن بناة التيارات هذه ودعاة التشدد في المفاصل كلها، ومن خلال إصرارهم على تقديم العنف والقتل، إنما يعبرون عن وجهات نظر شخصية لا غير، وهي تعبير ضمني عما تنطوي عليه سرائرهم العميقة من أمراض نفسية واجتماعية، ومن يتتبع منظومة القتل لديهم يجد ان القائمين على الأمر هذا أناس غير أسوياء، دفعت بهم صروف مهينة خارجة عن أصول المعتقد والالتزام أو إقامة العدل الإلهي كما يحاولون تسويق بضاعتهم دائماً.
وقد لا تختلف قضية اللوائح الداعشية ضد مسيحيي الموصل كثيراً عن قضية قتل النساء في زيونة ببغداد، فهذا ينفذ أمراً إلهيا بحسب روايته له، وذاك ينفذ أمراً إلهيا بحسب روايته له أيضاً. ومثل ذلك وقعت وتقع الكثير من حوادث القتل والتهجير التاريخية التي تعرض لها السنة والشيعة والكرد والتركمان واليهود والمسيحيون والشبك والأيزيدية والبهائية ووو . لكن القضية وكما تتضح لا تتعلق بتطبيق النصوص إنما هي تعبير عن إرادة فردية، عن محاولات في الإقصاء والتشفي والنيل من الآخر. ولا نقول بان العرب والشرق أوسطيين جميعاً عبر التاريخ أكثر ميلا من غيرهم للعنف والتشدد وقهر خصومهم، او انهم الأقل في التسامح والعفو والغفران. لكن الذي يتضح أن منطقة مظلمة عميقة في النفس هذه لا تنفك تعمل على الثأر والانتقام ما وجدت لذلك سبيلاً.
نتذكر الخلافات التي استعرت بين المتشددين الإسلاميين والمنفتحين من المدنيين أيام كتابة الدستور العراقي، وكيف كان البعض يصرُّ على أن يكون القرآن مصدراً او المصدر الوحيد للتشريع. ومن يتتبع الفقرات التي كانت مثارا للجدل اكثر من غيرها يجد أن قانون الحوال الشخصية وقضية المرأة والتزويج والمواريث وكل ما هو شخصي هي محط الجدل ذاك، غاضين أبصارهم عن ما يمس جوهر الحياة في الاقتصاد والأمن والاستقلال والعلاقة مع الآخر وترسيخ قيم التسامح والصفح والمحبة . لا بل أغفلوا الخوض في تأسيس وتشريع قوانين تتعلق بإقامة الحدود على السارق والقاتل والعنصري ووو مع الوجود الصريح والقطعي من الآيات والاحاديث الخاصة بذلك.
نعم، هنالك من النصوص في المصحف والحديث ما يشير بقوة وتشدد في الأحكام ووجوب التطبيق، لكن إلى جانب ذلك هنالك المئات من الآيات والأحاديث التي تدعو للتسامح واللين والعفو والصفح، ترى لماذا لا تجد من يفعلها ويعمل بها من الخلفاء والأمراء والمشايخ؟ ألم تكن نصوصاً إلهية صريحةً ؟ ألم يكن هو القائل: وسعت رحمتي كل شيء!! ألم يقل: أهم يقسمون رحمة ربك .أليس هو القائل: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربَّ العالمين". أين أنتم من ذلك أيها الأوغاد؟ أتراه سيفرح (الله) بتهجير جاري المسيحي المسالم، جاري الفقير الذي لم أسمع منه تحقيراً لديني، جاري الذي تقاسمت معه الأرض والماء والهواء والرغيف والمحن والمسرات. هذا الذي أغلق باب داره دونما حلم بالعودة إليه .
لوائح البغدادي وأبواب فيروز
[post-views]
نشر في: 20 يوليو, 2014: 05:46 ص
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...