TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > عبدالرحمن منيف روائي الصحارى المتخيلة

عبدالرحمن منيف روائي الصحارى المتخيلة

نشر في: 4 ديسمبر, 2009: 06:21 م

د. حسين الهنداوي غير الذي يعرفه الرائح والغادي عنه من توزع وتنوع وحنين خفي الى مرابع البادية. وغير انه ولد لاب من نجد وام عراقية ومسقط راس اردني واقامة مصرية فسورية فلبنانية وحتى يوغسلافية وفرنسية قبل ان يرجع الى ديار الصبا من جديد.
 وغير انه درس الحقوق ولم يكملها وتخصص في اقتصاديات النفط ولم يمارسها واشتغل في الصحافة ولم يحبها، وغير انه تبعثن وتقومن وتمركس وتأنسن دون ان يغمض له على كسرة منها جفن. فان عبدالرحمن منيف ظل في اعماقه الصافية وفياً لقيم وروح صحراء محض عراقية ـ نجدية، ظلت حاضرة وطرية بين عينيه باحلامها واوهامها حتى لحظة رحيله المبكر امس وبعيد بلوغه السبعين بالكاد. فالصحراء عندما تكون باشجار وطيب وخرائط ومتخيلة، تكون بالرواية والبوح المديد احرى. (الاشجار واغتيال مرزوق) فضحت الحماس ذلك منذ 1973. بيد ان (شرق المتوسط) و(تقاسيم الليل) و(النهايات) و(سباق المسافات الطويلة) و(مدن الملح) هي في التحصيل الاخير، (رثائيات ذات) حميمة ومتعالية في آن اقرب الى، وربما استلهمت، ولو من بعيد جدا، وقطعا دون وعي، نفس بعض البكائيات الجاهلية، العمرو كلثومية خاصة، اكثر مما هي تسعى، كما توهم البعض عند الكتابة عن العمل الروائي لعبد الرحمن منيف، وربما كما توحي، الى تصفية حساب مع وعي سياسي او ايديولوجي فردي او قومي ما. فابن البادية، ولو عن بعد، لا يفاجأ بالهزيمة ولا يغره الانتصار لانه يتوقعهما دائما ومتناوبان غالبا الا ان الكمد هو ما يغدر به وغالبا بسبب مرارة الصفاء والوفاء لاسيما اذا كانت مترعة بالتوق للتغيير منذ الصبا. وفي هذا يتفوق فن منيف وفكره على مثيله لدى معظم الروائيين العرب وقطعا على الطيب صالح او حنا مينه وحيدر حيدر من حيث ان (الاستحضار)، ولنقل النظري، لا يتم واعيا او اصطناعيا في الموضوع الا نادرا، انما يأتي تلقائيا فيما يتركز الاستحضار على شروط لحظة الكتابة ذاتها التي تعتقد ان مادتها ليست متواطئة مع الواقع التاريخي او الاجتماعي او السياسي او ما شابه رغم انها تداهنه او تلويه احيانا حسب مستوى قوة العادة لحظتئذ. من هنا التنازل الطوعي في النص عن اية سلطة بما فيها سلطة السرد والرثاء: ليس هناك استراحة او نياشين او شعارات للمحارب لان ليس هناك محارب اصلا، انما كل شيء يأتي لوحده ليمثل نفسه وليجدد اداة تطهير الروح من نزواتها الطارئة وهكذا عند شروق شمس كل يوم وهنا تكمن اسباب القطيعة مع المجموع الاول القبيلة او الصحراء او الامة كما يكمن سر الحنين اليها، اللواذ بها بالاحرى: كل شيء مجرد الى اقصى حد بما فيه الكتابة ذاتها. لكن عبدالرحمن منيف لا يكتب نصا صحراويا او نصا للصحراء كما لا يكتب نصا قوميا انما نص كوني معتمدا على الصوت الواحد وبلا تعقيدات سردية وبروح وفضاءات صحراء ارض السواد العربية وحدها، صحراء النفط والبراءة وتمجيد الذات والقمع والتحولات والمقاومة والكرم والقسوة ومتعب الهذال والقرن العشرين. وهي فضاءات وروح يكاد يكون قد ورثها فطريا واكاد اقول ابديا كما تؤكده نشأة وسيرة ونجاحات وخيبات هذا الروائي المولود لاب من قرية قصيباء، من اعمال القصيم في وسط نجد السعودية، هاجر منها اولا ضمن احدى القوافل البدوية الى بلاد الشام، ثم ارجعه الحنين اليها، ثم هجرها وبعد رحيل متكرر بين نجد والشام، استقر ابراهيم المنيف في الاردن، فولد له فيها اخر ابنائه الذكور (عبدالرحمن) في العام 1933، وبعد ثلاث سنوات توفي الاب ونشأ الابن في المدن. وكأبن صحراء بالوراثة، والصحراء ام طاردة، لا ينضب خيال الروائي منيف عندما يهجرها انما ترافقه كظله البعيد اينما حل وهو يبتكر لها المواقع والهيئات ليدسها في حله وترحاله. فهي مع سجناء الضمير ومع تناقض الحرية ـ القومية، وحتى عندما تنأى عنه تماما، فان تاريخها هو ما يعود له كما في (ارض السواد)، كتابه الاخير الذي اراد له ان يكون ما يمكن اعتباره تاريخ العراق في القرن العشرين. بيد ان التجريد، الثروة العظمى للروائي الموروثة من تلك الام، تتحول مع نأيها الى ادغال وهذا ما بدا واضحا في اعمال منيف بعد (مدن الملح) التي تظل درة اعماله. فالتاريخ، كما قال منيف نفسه مرة، حالة منجزة اغلب الاحيان، وبالتالي فان الاقتراب منه بمقدار ما يبدو سهلا، فانه شديد الصعوبة، لان مهمة الروائي يجب ان تتساوق مع الروح الكامنة في هذا التاريخ، وليس اعادة انتاجه، على حساب هذه الفسحة من الخيال، او عبر خلق الشخصيات التي لم يكن لها وجود تاريخي، والتي تعطي ملامح عن التاريخ الحقيقي الذي وقع.ومها يكن الامر، وكجبرا ابراهيم جبرا شر يكه في كتابة (عالم بلا خرائط) وفي روح (ارض السواد) ربما، والوافد مثله على العراق في سن متأخرة نسبيا، كان عبدالرحمن منيف روائيا عربيا كبيرا لكنه وكجبرا ايضا لم يكن مفكرا او مبشرا بنفس القدر.. فلقد كان مبدعا في قراءة التاريخ لا في كتابته لاسيما اذا كان ثريا وشائكا ومشاكسا كتاريخ ارض السواد. ومثله ايضا كان اقرب الى اديب مهجر بالنسبة لبلديه الاصليين العراق والسعودية، كما كان جبرا مع العراق وفلسطين. اذ لم يستطيعا كما يحصل دائما، رؤية الاشياء التي قد لا يستطيع رؤيتها الا المصهور بها

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram