عثـر على هذا المقال بين مقالات واوراق شخصية، وهو بخط الكاتب، يبدو ان (غائب) كان قد ارسله الى محمد كامل عارف. خلال السبعينيات، ولكنه لم ينشره في حينه، على الرغم من انه كان قد وضع هامشا توضيحيا في نهاية المقال يشير الى انه كتبه بتكليف من دار النشر السوفييتية (بروغرس) مقدمة لرواية عبدالرحمن منيف (الاشجار واغتيال مرزوق) التي صدر بالروسية في موسكو..
لم يكتب لاي كاتب عربي معاصر ان يوزع حياته على خارطة العالم العربي مثلما كتب لعبدالرحمن منيف، ابو عبدالرحمن نجدي تزوج في احدى رحلاته الى العراق وسوريا والاردن وفلسطين ومصر امرأة عراقية ولدت له عبدالرحمن في عمان.. وتوفي الوالد بعد فترة قصيرة من مولد ابنه، فاضطرت العائلة الى البقاء في عمان- كما يقول عبدالرحمن في رسالة خاصة – انتظارا للعودة الى نجد، ولعل عبدالرحمن قد قضى وقتا غير قليل في الاردن، فان له ذكريات فيها تتخلل بعض كتبه، وعاد الى نجد، ثم سافر الى العراق فدرس فيه، وعرف البلاد اهلها وطبيعتها، ظل يحمل جواز سفر سعوديا حتى عام 1963، حيث اضطر الى حمل جواز سفر جزائري لبضع سنين، استبدله بعد ذلك بجواز سفر عراقي، وعمل ردحا طويلا في سوريا، بعد ان انهى دراسته العليا في يوغسلافيا، باختصاصه الاصلي: النفط، ثم في العراق، وقام برحلات مطولة الى اغلب البلدان العربية، وقد افاد ذلك ممارسته الادبية واثراها، وجعلها اكثر شمولية في نظرتها الى الاشياء والظواهر، وان كان قد مال به الى التجريد، احيانا: في رسم الشخوص، ورصد الظواهر حتى ليتساءل القارئ احيانا: من اي بلد عربي هذه الشخصية او تلك واين وقع هذا الحادث او ذاك؟ ومع هذا فقد اعطته هذه الرحابة في سعة النظر اكبر عدد من اوجه وابعاد المشكلة المطروحة، وتحسس الواقع المشترك بذلك التشابك الموجود بافلعل، وبعشرات الروابط التي تربط العالم العربي ككل، وتمازج المشاكل والهموم والتطلعات فيه، حتى يتعذر ان توجد في العالم العربي (واحة) او (طيبة) كما هي في الرواية المقدمة الى القارئ السوفييتي لاتتأثر في الجو العام السائد، ويتمازج المصير، كما يحلو لنا نحن العرب ان نسميه، ويزيد من احساس القارئ العربي بعنصر المشاركة الوجدانية والفكرية بمصائر الناس الساكنين تلك الرقعة الكبيرة المعروفة بالعالم العربي، حقا ان عبدالرحمن منيف واع بوجود فروق، ولتكن مؤقتة في واقع كل قطر عربي، وهمومه الخاصة، اذا صح التعبير الى جانب همومه القومية العربية العامة، فهو في احدى مقابلاته الصحفية يقول: كلما ازدادت رواياتنا محلية كلما اصبحت عالمية، بمعنى آخر كلما كانت اقرب الى الصدق في تصوير الجو المحلي، وكلما كانت اعمق في حياة الناس حتى ولو كانوا مجموعة صغيرة كلما اصبحت اقرب الى العالمية.. (مجلة "المعرفة" السورية العدد 204، شباط 1979).. دخل عبدالرحمن منيف الحياة الادبية بروايته الاولى الاشجار واغتيال مرزوق التي صدرت عام 1973 وفي الحال لفتت اليه انظار النقاد والقراء على حد سواء وبعد ذلك اصدر منيف خمس روايات هي كالاتي: قصة حب مجوسية 1974، شرق المتوسط 1975، حين تركنا الجسر 1976، النهايات 1978، وسباق المسافات الطويلة عام 1979.. ويقول عبدالرحمن منيف عن دخوله الميدان الادبي، بعد ان كان معروفا في العالم العربي كأخصائي في النفط كنت حتى نهاية الستينيات مجرد قارئ جيد، وبعد ذلك ونتيجة اوضاع نفسية خانقة لم اجد سوى طريق واحد: الكتابة، وهكذا بدأت عام 1970.. في رواية منيف (الاشجار واغتيال مرزوق) اشارات واضحة الى حدث مثير في تاريخ العرب المعاصر وهو ماسمي فيما بعد، بنكسة حزيران، اي هزيمة العرب عام 1967، فهو يذكر حزيران في هذه الرواية عدة مرات، ويصور منصورا جنديا هزم، الجندية الطلقة التي اصابت منصور ، الهزيمة.. لقد كان ذلك صيفا ساخنا فاق في حرارته رمضاء الصحراء، سبب جرحا عميقا في الكرامة العربية، وهز العالم العربي دانيه وقاصيه، ونبه الكثيرين الى حقائق قاسية موجعة خلفها الواقع العربي، الذي كان يمؤه ويطلي على الجماهير العربية بالتزوير والاكاذيب وقد واجهت هذه الجماهير مصيرا كالحا، ووجدت نفسها وحدها مع الخيبة المفجعة، واي شيء اخيب وافجع من الهزيمة؟! والمدركون وحدهم، ومن بينهم عبدالرحمن منيف، اقتنعوا بأنها لم تكن هزيمة الانسان العربي بقدر ماهي هزيمة الانظمة الرجعية السالبة لحقوقه، بقدر ماهي هزيمة للتركة السيئة من مخلفات الماضي والاستعمار وسخام القرون المظلمة.. وطبيعي ان تنتج تلك الهزيمة في المجتمع العربي ادبا، وقد انتجت بالفعل الوانا مختلفة من هذا الادب شعرا وروايات ومسرحيات وتأملات وحماسيات، وطوال سنين عديدة ظل المثقفون العرب ينزفون كتابات ويغرقون الصحف والمجلات ودور النشر بسيل لاينقطع من ردون الافعال والانطباعات والشتائم، والاحلام والتوقعات، وما يرونه صورة لما كان ولما سيكون، وكان قدر كبير من ذلكط متأثرا بلحظات وقوع الخيبة وبالاجتهادات الشخصية، ومن وحي الساعة، كما نقول نحن، اي للاستهلاك اليومي، وقد تبين في خضم المهمات الجديدة للفكر العربي والانسان العربي، ولكن ثمة جانبا منه مايزال محتفظا بصدقه وجدته واصالته، لانه رصد ابعاد القضية بعمق، وشخص سبب الانهيار، ومن هذا الجانب رواية عبدالرحمن منيف (الاشجار واغتيال مرزوق).. هذه الرواية ايضا تطرج جانبا كبيرا
غائب طعمة فرمان قارئاً عبدالرحمن منيف
نشر في: 4 ديسمبر, 2009: 06:23 م