TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بعد فوات الأوان

بعد فوات الأوان

نشر في: 20 يوليو, 2014: 09:01 م

ذات سنة بعيدة . مسافتها ستون عاما وبضع فراسخ ، سنة بعيدة تقترب — حتى لتغدو لصق بؤبؤ العين وحنايا الذاكرة — كلما حل شهر رمضان ، وأذن للناس بالصيام.
ذات عمر يطلقون عليه مجازا عمر الورود ، - كنت - والبيت بيت تقى وورع : الأم تحفظ القران آية آية ، والأب يرتله قبيل صلاة الفجر .كنت أدعى، للصيام ترغيبا لا ترهيبا .
في تلك السنوات ، والقيظ في البصرة لا يشبهه قيظ مثله إلا في قرارة جهنم، ليس لسع شواظ الشمس فحسب ، بل يوآتيك (الشرجي ) من الجهات الست وما من وسيلة للتبريد غير مروحة سقفية دوارة ، تئز اجنحتها وتختلج كما جناحي طائر مذبوح على التو .
في تلكم السنوات ، كان الوالدان يزينان للصبية — انا — الصوم والصلاة ، الآب يمنيها بعيدية جزلة والام تعدها بفستان مزركش مزين بالكلبدون واللؤلو .
العرض مغر ، سيما وكل البالغين في البيت صيام ، وذلك يعني ان لا مائدة فطور مزينة صحونها بالقيمر والدبس او العسل ، ولا صينية غذاء تضوع من حسائها نكهة الزنجبيل والدهن الحر ، ولا قصعة عشاء تفوح من زواياها أطايب الهيل والزعفران .
ردع النفس عن الشهوات — الآكل والشرب ضمنها — درس بليغ ، وامتثال قدسي.
وتمتثل الصبية….
حين يقترب اذان العصر . يشتد القيظ ، وتتعاظم وطأة الرطوبة ((الشرجي )) ويبلغ العطش مدياته العظمى . ما الحل؟
تنتهز الصبية فرصة الوضوء ، وحين تبلغ مرحلة التغرغر بالماء مع ترديد اللازمة المعهودة : اللهم أسقني من حوض الكوثر، اللهم أسقني من حوض.. اللهم … تبتهل المناسبة فتعب من الماء ما يبل بعض العطش ، او كله في معظم الأحيان ….
ما هم ؟ وما من احد يراها سوى الله ! ومن غير الله غفور رحيم ؟!
بعد تلك السنين استحضر المعنى الكامن في حكمة قديمة: الخلق هو انت في الظلام .
يعني ان تكون انت ذاتك في الظلمة وفي وضح النهار ، ان يعهد اليك بمفاتيح الخزائن ، وما من رقيب عليك ، فلا تمد يدك لتسرق ، وتبتلى بصنوف الملذات فتتعفف ، وتؤتمن ، فلا تخون ، وتخير بين الانتقام والصفح ، فتعف ، وتغريك المغريات ، فتستعصم .وتقوى بمال او جاه او سلطة ، فتتواضع . و وتدعى للحكم ، فتعدل، و… و…
…….. لماذا لا تتجلى لنا هفواتنا الصغيرة و تتجسم خطايانا الكبيرة — إلا بعد فوات الاوان ؟ لماذا؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد عدنان

    وانا اقراء هذه الكلمات الرائعه تراءت لي صورة الوالده رحمها الله حين كانت تزور بيت جدي في اليرموك. دعوت الله ان يرحمها ويرحم جميع موتى المسلمين ويمد في عمركم.

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram