ذات سنة بعيدة . مسافتها ستون عاما وبضع فراسخ ، سنة بعيدة تقترب — حتى لتغدو لصق بؤبؤ العين وحنايا الذاكرة — كلما حل شهر رمضان ، وأذن للناس بالصيام.
ذات عمر يطلقون عليه مجازا عمر الورود ، - كنت - والبيت بيت تقى وورع : الأم تحفظ القران آية آية ، والأب يرتله قبيل صلاة الفجر .كنت أدعى، للصيام ترغيبا لا ترهيبا .
في تلك السنوات ، والقيظ في البصرة لا يشبهه قيظ مثله إلا في قرارة جهنم، ليس لسع شواظ الشمس فحسب ، بل يوآتيك (الشرجي ) من الجهات الست وما من وسيلة للتبريد غير مروحة سقفية دوارة ، تئز اجنحتها وتختلج كما جناحي طائر مذبوح على التو .
في تلكم السنوات ، كان الوالدان يزينان للصبية — انا — الصوم والصلاة ، الآب يمنيها بعيدية جزلة والام تعدها بفستان مزركش مزين بالكلبدون واللؤلو .
العرض مغر ، سيما وكل البالغين في البيت صيام ، وذلك يعني ان لا مائدة فطور مزينة صحونها بالقيمر والدبس او العسل ، ولا صينية غذاء تضوع من حسائها نكهة الزنجبيل والدهن الحر ، ولا قصعة عشاء تفوح من زواياها أطايب الهيل والزعفران .
ردع النفس عن الشهوات — الآكل والشرب ضمنها — درس بليغ ، وامتثال قدسي.
وتمتثل الصبية….
حين يقترب اذان العصر . يشتد القيظ ، وتتعاظم وطأة الرطوبة ((الشرجي )) ويبلغ العطش مدياته العظمى . ما الحل؟
تنتهز الصبية فرصة الوضوء ، وحين تبلغ مرحلة التغرغر بالماء مع ترديد اللازمة المعهودة : اللهم أسقني من حوض الكوثر، اللهم أسقني من حوض.. اللهم … تبتهل المناسبة فتعب من الماء ما يبل بعض العطش ، او كله في معظم الأحيان ….
ما هم ؟ وما من احد يراها سوى الله ! ومن غير الله غفور رحيم ؟!
بعد تلك السنين استحضر المعنى الكامن في حكمة قديمة: الخلق هو انت في الظلام .
يعني ان تكون انت ذاتك في الظلمة وفي وضح النهار ، ان يعهد اليك بمفاتيح الخزائن ، وما من رقيب عليك ، فلا تمد يدك لتسرق ، وتبتلى بصنوف الملذات فتتعفف ، وتؤتمن ، فلا تخون ، وتخير بين الانتقام والصفح ، فتعف ، وتغريك المغريات ، فتستعصم .وتقوى بمال او جاه او سلطة ، فتتواضع . و وتدعى للحكم ، فتعدل، و… و…
…….. لماذا لا تتجلى لنا هفواتنا الصغيرة و تتجسم خطايانا الكبيرة — إلا بعد فوات الاوان ؟ لماذا؟
بعد فوات الأوان
[post-views]
نشر في: 20 يوليو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
محمد عدنان
وانا اقراء هذه الكلمات الرائعه تراءت لي صورة الوالده رحمها الله حين كانت تزور بيت جدي في اليرموك. دعوت الله ان يرحمها ويرحم جميع موتى المسلمين ويمد في عمركم.