TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الوقوف في مركز اللجّة

الوقوف في مركز اللجّة

نشر في: 22 يوليو, 2014: 09:01 م

أدعية وتوسلات كثيرة وتمنيات أمهات وشقيقات بالعودة السالمة راحت تحف وتزفُّ الأبناء والأشقاء الذين لبّوا دعوة المرجعية وذهبوا متطوعين إلى سامراء وبغداد وتكريت والموصل، في إصرار وطني –ديني على تمكين الجيش العراقي من استرداد المدن التي سلبتها داعش، لكن المشهد يحيلنا إلى السنوات التي كنا فيها جنوداً أيام الحرب مع إيران، نحن الذين ماتت عنا أمهاتنا وشقيقاتنا وصرنا آباء وجدوداً اليوم، هم أولادنا وأحفادنا أولئك الذين نودعهم إلى جبهات الحرب ودونما شعور بجديد رحنا نقول ما أشبه اليوم بالبارحة، ما أقرب الرصاص ما أبعد الأمل.
في شبه تأكيد مطلق نقول بإن غالبية المتطوعين هم من أبناء الشيعة، ومثلما كانوا الأكثرية في حرب السنوات الثمانية مع إيران، هم الأكثرية اليوم في الحرب مع داعش، وهكذا ظل أبناء الطائفة بإرادتهم مرة وبدونها مرة اخرى جنوداً مقاتلين في حروب وطنية مرة وشائكة ملتبسة مرة أخرى. الآباء الذين اكتهلوا وصاروا شيوخاً اليوم يعرفون الحرب وماذا يعني ان تقف في مشتبك من الرصاص، أن تكون خلف ساتر التراب وبندقيتك مطلقة خارج مزغل النار، يعرفون جيداً أن الحرب لا تعني بالضرورة عودتك سالما الى البيت، وهم يدركون أكثر من أبنائهم واحفادهم بأن العدو، أي عدو، ليس ضيفاً على الأرض، إنه الخصم الذي لا تنفع معه إلا الخراطيش، وعليك أن تبتدئ به مقتولا قبل أن يبتدئ بك قاتلاً.
قد يبدو المشهد مختلفاً في المدينة (البصرة) التي تسكنها أقلية سنية، لكني أستطيع رؤية المشهد من اعمق نقطة فيه، جارنا أبو محمود، سنّي بالأصل من قرية جلاّب بأبي الخصيب، يحاول جاهداً إكمال بيته الذي يشيده على قطعة الأرض التي اشتراها قبل شهرين، هو يسكن في حي الزهراء، وسط المدينة، غالبية جيرانه من أبناء الطائفة الشيخية، شيعة أثني عشرية: أبو حسين وأبو سجاد، وعباس بناؤون ولبّاخون ونجارون وحدادون هم من يتولى إكمال بيته، ذلك لأنه يعمل في شركة ابن ماجد، ولا وقت لديه للعمل. أسرني أحدهم قائلاً بانهم لا يرغبون بانتقال أبي محمود عنهم، هم يريدونه جارا لهم مدى العمر، حيث يسكنون في حي الزهراء، لكنهم في الوقت ذاته يرون أن السكن في بيت جديد والانتقال من دار الإيجار إلى دار الملك أمر لا سبيل إلى المفاضلة فيه. يعملون بجدية لكني رأيت عينا لهم هنا وأخرى هناك حيث يرغبون بعدم انتقاله عنهم.
أسألُ عن الحوار الخفي الذي يساور الاثنين في لحظة ما، اللحظة التي يودع فيها الشيعي ولده ليقاتل في سامراء أو الموصل او تكريت، ترى ما الذي تحدّثه نفسه فيها أبو محمود وهو ينظر لأم سجاد وهي تودع ابنها، أو ترش الماء خلفه، او تدعو له بالنصر والعودة السالمة. هنالك محنة حقيقية، أزمة نفسية واجتماعية مدمرة، عابرة للمشاعر الوطنية هي نوع من الابتلاء والتوريط والإرباك، تضافرت جهات عدة على إيجادها، محنة قد تفكك النسيج الوطني- الإنساني بين المكونين الرئيسين. القضية قد تتجاوز بأبعادها داعش والمسلحين، وقد لا يصار إلى فهمها من قبل السني كما يجب، وهي غير مفهومة من الشيعي أيضاً. وما حدث في الموصل من تهليل بعد دخول داعش لن يستمر طويلاً، وها نحن نشهد انقلاب الموازنات والآمال، نشهد نتائج مفرطة في اليأس تلك التي يجنيها الموصليون اليوم، الذين كانوا برمين من وجود الجيش العراقي في مدينتهم قبل 6 حزيران. ترى هل نبلغ شعورنا بالمواطنة خارج يأسنا الطائفي؟
قد نجد هناك أباً أو اماً أو شقيقاً من الذين يدفعون بإحساس طائفي، وهو معلن لدى داعش والمسلحين معها، وفي المقابل نجد أمثال هؤلاء في معسكرنا الجنوبي، وهم كثيرون وكثيرون جداً لكننا قلما نجد من يحدثنا عن الوطن الذي يتقطع، وتنبتر أجزاؤه. في اللجة علينا أن نستعير اكف أهلينا دونما تفكير بلون، بطائفة، ذلك لأن الحرب تختبر تماسكنا، تختبر أصابعنا وهي تتعانق وتنبي وتحمل الأمتعة، وهي تنقل أثاث جارنا أبي محمود. نعم ، هنالك فجوة عميقة لا تردمها الابتسامات ولا الدموع حتى، لكن لا بد أن نقف معاً، في مركز الفجوة العميقة تلك، لا لننتظر إنما لنقرر. أنا مجردٌ، متنصل أبدا ًمن ما تقوم به داعش وأمثالها من قتل وتهجير وسلب، وأنت من بغضائك لأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram