أدعية وتوسلات كثيرة وتمنيات أمهات وشقيقات بالعودة السالمة راحت تحف وتزفُّ الأبناء والأشقاء الذين لبّوا دعوة المرجعية وذهبوا متطوعين إلى سامراء وبغداد وتكريت والموصل، في إصرار وطني –ديني على تمكين الجيش العراقي من استرداد المدن التي سلبتها داعش، لكن المشهد يحيلنا إلى السنوات التي كنا فيها جنوداً أيام الحرب مع إيران، نحن الذين ماتت عنا أمهاتنا وشقيقاتنا وصرنا آباء وجدوداً اليوم، هم أولادنا وأحفادنا أولئك الذين نودعهم إلى جبهات الحرب ودونما شعور بجديد رحنا نقول ما أشبه اليوم بالبارحة، ما أقرب الرصاص ما أبعد الأمل.
في شبه تأكيد مطلق نقول بإن غالبية المتطوعين هم من أبناء الشيعة، ومثلما كانوا الأكثرية في حرب السنوات الثمانية مع إيران، هم الأكثرية اليوم في الحرب مع داعش، وهكذا ظل أبناء الطائفة بإرادتهم مرة وبدونها مرة اخرى جنوداً مقاتلين في حروب وطنية مرة وشائكة ملتبسة مرة أخرى. الآباء الذين اكتهلوا وصاروا شيوخاً اليوم يعرفون الحرب وماذا يعني ان تقف في مشتبك من الرصاص، أن تكون خلف ساتر التراب وبندقيتك مطلقة خارج مزغل النار، يعرفون جيداً أن الحرب لا تعني بالضرورة عودتك سالما الى البيت، وهم يدركون أكثر من أبنائهم واحفادهم بأن العدو، أي عدو، ليس ضيفاً على الأرض، إنه الخصم الذي لا تنفع معه إلا الخراطيش، وعليك أن تبتدئ به مقتولا قبل أن يبتدئ بك قاتلاً.
قد يبدو المشهد مختلفاً في المدينة (البصرة) التي تسكنها أقلية سنية، لكني أستطيع رؤية المشهد من اعمق نقطة فيه، جارنا أبو محمود، سنّي بالأصل من قرية جلاّب بأبي الخصيب، يحاول جاهداً إكمال بيته الذي يشيده على قطعة الأرض التي اشتراها قبل شهرين، هو يسكن في حي الزهراء، وسط المدينة، غالبية جيرانه من أبناء الطائفة الشيخية، شيعة أثني عشرية: أبو حسين وأبو سجاد، وعباس بناؤون ولبّاخون ونجارون وحدادون هم من يتولى إكمال بيته، ذلك لأنه يعمل في شركة ابن ماجد، ولا وقت لديه للعمل. أسرني أحدهم قائلاً بانهم لا يرغبون بانتقال أبي محمود عنهم، هم يريدونه جارا لهم مدى العمر، حيث يسكنون في حي الزهراء، لكنهم في الوقت ذاته يرون أن السكن في بيت جديد والانتقال من دار الإيجار إلى دار الملك أمر لا سبيل إلى المفاضلة فيه. يعملون بجدية لكني رأيت عينا لهم هنا وأخرى هناك حيث يرغبون بعدم انتقاله عنهم.
أسألُ عن الحوار الخفي الذي يساور الاثنين في لحظة ما، اللحظة التي يودع فيها الشيعي ولده ليقاتل في سامراء أو الموصل او تكريت، ترى ما الذي تحدّثه نفسه فيها أبو محمود وهو ينظر لأم سجاد وهي تودع ابنها، أو ترش الماء خلفه، او تدعو له بالنصر والعودة السالمة. هنالك محنة حقيقية، أزمة نفسية واجتماعية مدمرة، عابرة للمشاعر الوطنية هي نوع من الابتلاء والتوريط والإرباك، تضافرت جهات عدة على إيجادها، محنة قد تفكك النسيج الوطني- الإنساني بين المكونين الرئيسين. القضية قد تتجاوز بأبعادها داعش والمسلحين، وقد لا يصار إلى فهمها من قبل السني كما يجب، وهي غير مفهومة من الشيعي أيضاً. وما حدث في الموصل من تهليل بعد دخول داعش لن يستمر طويلاً، وها نحن نشهد انقلاب الموازنات والآمال، نشهد نتائج مفرطة في اليأس تلك التي يجنيها الموصليون اليوم، الذين كانوا برمين من وجود الجيش العراقي في مدينتهم قبل 6 حزيران. ترى هل نبلغ شعورنا بالمواطنة خارج يأسنا الطائفي؟
قد نجد هناك أباً أو اماً أو شقيقاً من الذين يدفعون بإحساس طائفي، وهو معلن لدى داعش والمسلحين معها، وفي المقابل نجد أمثال هؤلاء في معسكرنا الجنوبي، وهم كثيرون وكثيرون جداً لكننا قلما نجد من يحدثنا عن الوطن الذي يتقطع، وتنبتر أجزاؤه. في اللجة علينا أن نستعير اكف أهلينا دونما تفكير بلون، بطائفة، ذلك لأن الحرب تختبر تماسكنا، تختبر أصابعنا وهي تتعانق وتنبي وتحمل الأمتعة، وهي تنقل أثاث جارنا أبي محمود. نعم ، هنالك فجوة عميقة لا تردمها الابتسامات ولا الدموع حتى، لكن لا بد أن نقف معاً، في مركز الفجوة العميقة تلك، لا لننتظر إنما لنقرر. أنا مجردٌ، متنصل أبدا ًمن ما تقوم به داعش وأمثالها من قتل وتهجير وسلب، وأنت من بغضائك لأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة .
الوقوف في مركز اللجّة
[post-views]
نشر في: 22 يوليو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...