عالج الكاتب عبدالرحيم كمال قصة "الملك لير" واستطاع توسيعها لتشمل تفاصيل الحياة الصعيدية لتتواءم مع الأصل، ولكن ضمن متعة درامية تمتد في حلقات تمثيلية مبنية برؤية قرية بناها ضمن معادلة إنسانية تتشابه معها الأزمنة، والأمكنة حيث المصائر الإنسانية و
عالج الكاتب عبدالرحيم كمال قصة "الملك لير" واستطاع توسيعها لتشمل تفاصيل الحياة الصعيدية لتتواءم مع الأصل، ولكن ضمن متعة درامية تمتد في حلقات تمثيلية مبنية برؤية قرية بناها ضمن معادلة إنسانية تتشابه معها الأزمنة، والأمكنة حيث المصائر الإنسانية والنفوس في الرخاء والشدة، والصراع ومحاسبة النفس كما هي الحال مع أخته " سكن " وهي ضمن معادلة حياة تتساوى مع قصة " الملك لير" للكاتب العالمي وليام شكسبير ، فقد بنى " عبدالرحيم كمال" قريته بالصعيد الذي يمثل الجذور المصرية الاساسية للمبادئ والاسس التي ينتقدها المسلسل من خلال المفارقات في النفوس الانسانية المتنوعة في تضادها وتوافقها، وفي النزاع او الصراع على المال والسلاح والنفوذ الحاكم او المتحكم برقاب الناس او التهافت على السيادة والسيطرة والتفاخر بالمال والأولاد والسلاح.
ان المعادلة الدرامية في مسلسل "دهشة" احتفظت بالقيمة الانسانية القائمة على التجربة التي تحتفظ بالفكر والحكمة، وبالنظريات الحياتية التي تأتي نتيجة الخبرة والوعي، ولغموض ما في الجينات الوراثية او في السلوك الناتج عن المنشأ وموازين الحياة التي تأخذ حق هذا وتترك حق ذاك، فهل استطاع الملك "لير" معرفة نفوس بناته قبل توزيع الثروة ام ان " الباسل" ترك كنزه الاخير لابنة حقد عليها بقدر ما احبها؟ وهل المال هو مصدر السعادة في الحياة؟ ما رفع من قيمة العمل الدرامي في مسلسل " دهشة " هو القدرة على خلق معادلة تتوازى مع ملوكية "لير" ولكن ضمن بيئة عربية حاضنة. لنوعيات إنسانية هي بحد ذاتها هشة ومتواضعة ببنائها الدرامي ذي الدعائم التمثيلية المحبوكة ضمن قدرات تمثيلية رسخت المعنى ، ومنحته قوة إقناع وتأثير، وكأن القصة مكتوبة لدهشة بشكل خاص.
امسك " عبدالرحيم كمال" بالخيط الإنساني المحبوك ضمن نسيج حياتي يجمع بين قضايا البشر بشكل عام . لتجتمع العناصر الدرامية حوله في بناء أضاف عليه عفوية البعض، وشرور البعض ، والخير في نفوس جبلت على الوفاء، ولا تستطيع التملق او التكلف او الغدر فقد استطاع فهم قصة الملك " لير" التي تتوافق مع التجارب الانسانية التي نقرأ عنها عبر التاريخ والتي تضع الإنسان امام الخيارات الصعبة او استنتاجات تترك لليد الواحدة اختلافات يصعب تفسيرها . لانها تمثل الخلق والانفس والافكار المختلفة ، ربما المبنية ايضا على المعاناة ، كما هي عند " الباسل" واخته " سكن " وفي المقابل الاخوة الاشقاء والاختلاف الشديد فيما بينهم ، وهذا يتناسق مع الاسرة والقرية والمدينة والوطن بأكمله.
لم تتعارض البنية التراجيدية الدائمة العتمة في تصويراتها الداخلية التي اكثر منها المخرج " شادي الفخراني" حتى الان في الحلقات الاولى مقارنة مع التصوير الخارجي، والخوض في المشاهد المكونة ببساطة على دعامة التصوير ، والديكور التحليلي للمضمون المنسجم مع المكان والزمان ، والواقع المؤكد على وجود "الباسل" في قرية هي من بناء الكاتب " عبدالرحيم كمال" ومهندس الديكور والمخرج المكمل للرؤية بكل ابعادها التي تجسدت في قصة الملك " لير" رائعة وليام شكسبير ، وما تحمله من معان انسانية عظيمة خاصة ، وان الكاتب " عبدالرحيم كمال" يحاكي ادق تفاصيل الحياة الصعيدية المصرية حيث تصاحب الفكرة مواضيع مختلفة معيشية وسياسية من حيث شراء السلاح للحفاظ على الذات، وعلى التكامل الإنساني المشروط بالحفاظ على البقاء، ومن طبع اندمج مع الشخصيات العربية وفحواها من خلال التعاطي مع التفاصيل والقدرة على منح المشهد حيوية صادقة يشعر بها المتلقي.
يقتنع المتفرج على مسلسل "دهشة" بأن الحياة بحد ذاتها دراما او تراجيديا متواصلة يتخللها الجنون، وبساطته التي تتضح مع حمدتو المرافق لمصطفى حفيد "الباسل" المرتبط باسلوب "وليام شكسبير وميل الانسان الى ابتكار تفاصيل جنون مملوءة بالحكمة احيانا، واحيانا بمتاهات النفس المعقدة من الاحداث الضاغطة على مساراتها، وهذا ملموس في اقوال الفنان" يحيى الفخراني" مع بناته او بالاحرى الملك "لير" وبناته الثلاثة.
يتمثل الصراع بين القوى المدركة للشيء المتنازع عليه وبين القوى الجاهلة فيه كأزواج البنات الذين يتصارعون على الاشياء ويتركون الجوهر الذي تمسكت به الابنة الصغرى . ان في قصة الملك" لير" او في مسلسل" دهشة" يتمثل الصراع الذاتي ما بين الشر والخير ، وما بين الجنون والحكمة والخطأ في تقدير الامور تبعا للانفس القادرة على معاندة الاقدار بل ورسم ما هو مجهول لادراك ماهية الموت والحياة والقدرة على البقاء ضمن وجود متصالح مع الذات .
اما التأليف الموسيقي للموسيقار " عمر خيرت" اخترق المضمون حيث استطاع خلق تأثيرات حسية مضافة . لتوحي بالمشهد الآتي او بالمضمون الدرامي الحزين او المفرح او حتى الغاضب والراضي، فالتعبيرات الموسيقية لعبت دورها في الحلقات الاولى من حيث الانسجام مع المشاهد والفواصل وحتى شارة البداية . اما الدهشة الاخرى، فهي التي قدمها الممثل " فتحي عبدالوهاب" الابن غير الشرعي لعلام او للمثل" نبيل الحلفاوي " والفنانة " حنان مطاوع" في دور الابنة الكبرى. الا ان " فتحي عبدالوهاب" منح الدور تناقضات متوجعة ومفرحة ما بين الانتقام والاخوة، وعدل الزمن الذي يدور ضمن دائرة الحياة الواحدة، وهذا ما هو مبني على تآلف ما بين المخرج والممثل. ليبدع في ادوراه المؤداة بابداع درامي اكتمل مع وجود الفنان "يحيى الفخراني" الغني عن التعريف او حتى عن ادواره في كل عمل درامي او مسرحي، وفي هذا غنى لمسلسل " دهشة" الذي يتم عرضه الآن على شاشاتنا العربية في شهر رمضان المبارك.
مسلسل دهشة للمخرج "شادي الفخراني" والمعالجة الدرامية للكاتب " عبدالرحيم كمال" ومن بطولة الفنان " يحي الفخراني".