يتصل بي من الموصل وأتصل به من البصرة، هو أخي وصديقي وابن قريتي أبو أحمد، الذي غادرها إلى الموصل منذ اكثر من عشر سنوات، هربا من آلة القتل وماكنة الترعيب التي كانت تمارسها المليشيات آنذاك، وفي العيد اتصلت به سائلاً عن أحواله ومعايداً له، ولأن الصورة التلفزيونية والفيسبوكية عندي مشوشة جداً فقد سالته حذرا عن أشياء رأيتُها عبر وسائل التواصل، كنت خائفا عليه من الإسهاب والإطناب في الحديث، لكنه أعلمني بأن الخضار والفاكهة متاحة كثيرة لمن يملك المال، لكن النقود قليلة شحيحة، وان الوقود غال جداً وان مادة التخدير في المستشفيات نفدت تماماً. نعم، كنت أخشى عليه الخوض في ما يحدث بالموصل، فقد يكون هاتفه مراقباً من داعش والمسلحين هناك.
لم يكُ أبو أحمد بعثياً، ولم ينتم لحزب اسلامي او قومي. كان مدرّساً ومديرا لثانوية حسب، ومثل كل سكان القرى في ابي الخصيب كان فلاحاً يحب النخل والماء والظلال وصيد السمك وأشياء كثيرة من التي نحبّها جميعاً مثل الحياة والقراءة وتربية الاولاد لكن الرعب والخوف من الموت والقتل وتشويه الجثث الذي طال أهل السنة في الفترة بين عامي 2005-2007 أجبره على الهجرة إلى هناك. وفي كل مرة تهدأ الاوضاع الأمنية فيها بالبصرة أسأله ما إذا كان يفكر بالعودة فيرد: إن شاء الله نعود. كانت البصرة بالنسبة له الرئة التي يتنفس الحياة من خلالها، وما ماؤها وتربتها وسككها وأسواقها على القذارة والاهمال إلا الحلم الأخير الذي ظل يشاهده في صحوه ومنامه.
الأحاديث التي تدور بيني وبين أبي احمد عبر الهاتف تذكرني دائما بأسئلة صديقي الشيوعي السابق والخصيبي الشاعر جمال مصطفى-سنّي أيضاً- الذي غادر البصرة إلى الدنمرك سنة 1980هربا من الحرب مع إيران، لكن جمال يسألني أسئلة الشاعر، المولع بالتفاصيل فهو يسألني عن مواسم بصرية خالصة، قد لا تبدو مهمة بالنسبة للبعض من غير البصريين والعراقيين فيقول لي مثلاً: ها، ما طاح البمنبر؟ بيّن الهنبوش لو بعد ؟ الحداك شلونه ها الايام ؟ ما طاح الصبور؟ والله مشتهي مركة شبزي.! وهكذا تعمل لدي آلة التفكير بالغربة ومعانيها الكبيرة، أنا الذي ما زلت أبحث عن متنفس خارج حدود المدينة التي يضايقني حرُّها وأشمئز من سلوك سياسييها، وقد اكره التجوال في اسواقها القبيحة. كان جمال وقد استبد به الحنين للبصرة ذات يوما قد قال لي : والله يا طالب، أحنُّ حتى إلى الذبّان، لم يشأ القول (الذباب) لعلمه بان الذبان في البصرة شيء والذباب في الكتب واللغة شيء آخر. كانت زوجته الشيعية تقول لي : أريد أن امشي حافية على الطريق التي تمدني من بيتنا على الشط إلى مدرستي التي على الشارع العام. أريد أن تسير ظلال النخيل معي يا طالب.
بين مواجع صديقي أبي احمد في الموصل وبين مواجع صديقي جمال وزوجته في الدنمارك مواجعي أنا الغريب في البصرة. هذه المدينة توزع علينا الدموع والحسرات حيثما نحل، نخرج منها مرعوبين خائفين متذمرين وحانقين ثم إذا انسنا الناس والمكان والشجر والظلال والحياة شدنا حنين بصري هائل للموت فيها، نهرب منه ونتمناه على أديمها، نستافه ونشتاقهُ كما لو انه الترياق !! . ترى، ما ذا نعمل وقد قاربت المدينة على خلوها من سكانها المسيحيين. يقول "اوجن" بانه سيذهب لفرنسا، ويقول أبو أحمد كيف اعود وأنت ترى ما أرى من مقاتل أهلي فيها، ويقول جمال : حتى وإن شدني حنين ما لها . البصرة لم تعد موطن أولادي .
البصرة موطن يضيق
[post-views]
نشر في: 2 أغسطس, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 3
ابو اثير
أرجعتني مقالتك الى ذكريات ماضية عن مدينة البصرة الحسناء العراقية النائمة على ضفاف شط العرب عنما زرتها لأول مرة بواسطة القطار في عام 1968 قبل ألأنقلاب على نظام عارف وزرت جميع معالمهاآنذاك من شارع الكورنيش والمعقل وجزيرة السندباد ومنتزه الخورة وسوق الكويتي
سعيد فرحان
سابقا ايام الثورات يوم كان يطلق على من يثور اسم ا لمتمردون او العصاة او اصحاب الافكار الهدامةوغيرها من مصطلحات السلطة وكان هناك من يطلق عليهم أقصى اليسار وهم الذين من هول ما وقع عليهم من ظلم اعتنقوا افكارا متشددة ومتطرفة ،اما اليوم مع كل هذا الضلم والقتل
حامد الكباسي
أستاذي العزيز الكتابة عن البصرة لها أول وليس آخر سميت البصرة باسماء مختلفة هي الى الاوصاف اقرب منها الى الاسماء، منها المشهورة في التراث (قبة الاسلام..-خزانة الادب- ذات الوشاحين-قبة العلم - منارة العقاب - المؤتفكة- سوق العالم - بندقية الشرق- ثغر العراق-حا