صدرت "المدى" في ٥ آب ٢٠٠٣، ودخلت انا العراق قادما من ايران، في ١٦ آب نفسه. ولانني قرأت خبر صدورها عن دار النشر الاثيرة عراقيا وعربيا، وانا اتصفح المواقع الخبرية قبل مغادرتي مدينة قم يومذاك، فيمكنني القول انني دخلت بغداد حينها، وانا تائه لا اعرف سوى "المدى"، وقيل لي انها في بناية قديمة على كورنيش ابي نؤاس.
وكانت هي اول مكان زرته في بغداد، يومها امسك زهير الجزائري بيدي وعرفني على فخري كريم رئيس المؤسسة، وكان اول لقاء معهما، وعرفت نفسي كالتالي: كاتب قادم من ايران، باحث في علوم الشريعة، شواغلي نقد التشدد الديني، اريد النشر عندكم! سلمني الرجلان الى حيدر سعيد، مسؤول صفحة الرأي حينها، لاكتشف بعد ذلك انني لم ادخل بغداد الا من بوابتها الشرعية، حيث تلتئم "اشهى حبات العنقود"، في رسالة نقدية وثقافية وصحفية متكاملة، تأخذك الى معرفة كل من يجب عليك معرفته في البلاد، من سهيل سامي نادر وسلوى زكو، حتى محمد خضير وكل الكهول والشباب منتجي المعرفة النقدية والاداب.
حصل هذا اذن، صدور المدى وخلاصي من المنفى، قبل ١١ عاما، ونحن اليوم امام مفترق طرق لم نتخيله بهذه القسوة يومذاك. ومئات الالاف من العراقيين منفيون داخل بلادهم، مهددون بالابادة.
ولكن في هذه السنة، تتزامن ذكرى المدى، مع شيء جوهري يختبر نهجها وسياستها التحريرية امام الجمهور الكريم. وتتزامن مع التحولات المؤسفة، ولكن المفيدة في الوقت نفسه في التأكد من حقيقة ما جرى خلال ١١ عاماً.
طوال سنوات، وخصوصا منذ ٢٠١٢، اعتبر البعض صوت المدى مبالغا او نشازا متشائما، وهو يحذر من عواقب الاخطاء القاتلة. ولكن في هذه اللحظة العصيبة، يدرك كثيرون ان المدى ساهمت في وضع نواة الموقف السياسي والثقافي المنادي بالتغيير، والذي تتبناه اليوم معظم الفعاليات الوطنية المطالبة بالاصلاح، داخل الاحزاب الكبرى والتيارات المدنية والمرجعيات الدينية، والصوت النقدي الواضح عند الرأي العام.
محاولة "إبصار المدى" وعدم الوقوع في فخ نسيان المستقبل اثناء انشدادنا غير الارادي، للحظة الراهنة ووشائجها مع المواضي العديدة، هو امر بمثابة الوظيفة النقدية التي مارستها المدى الجريدة، كجزء من مؤسسة تنتج الافكار، لا مجرد مشروع صحفي. وهذا اهم دور قد يلعبه ممثلو التيار المدني في بلادنا، الذين يمتلكون نفوذهم المعنوي الكبير، على قلة العدد وألوان الحصارات المضروبة حولهم.
في امسية جمعت اصدقاء الراحل استاذنا احمد المهنا، ونظمتها المدى ايضا في اربيل، قال السادة في كلماتهم بالمناسبة، ان ما يميز الفقيد الذي هزنا رحيله المفجع والمبكر، ليس فقط تلك التقاليد الحديثة التي ادخلها الى مؤسسات الصحافة في العراق، بل تبشيره بالاعتدال كنهج تصالحي في السياسة والاجتماع، وبوصف الاعتدال اساساً للعقلانية التي تجمع الناس ولا تفرقهم. دون ان يعني مفهوم الاعتدال هنا، تفريطاً بالمهمة النقدية للمثقف والكاتب، بل جهدا فكريا يقوم بتنبيه الناس الى خطورة ان نقوم بشيطنة منافسينا، وخطورة ان نعتقد بأن هناك "قبيلة" قادرة على تصفية القبائل الاخرى.
الاعتدال بمعناه هذا ظل منهج المدى "مغضوبا عليه" من كثيرين، لانه يعيد الاعتبار لقيمة الحداثة السياسية التي تكمن في نقل المصالح من معادلة الحرب الدموية، الى مناخ اخلاق التفاوض والتعاقد والتشارك، وتحمل اعباء السلام وأثمانه مهما بلغت.
الغاضبون من نهج المدى، والذين يحسبونها موجهة ضد شخص لا حالة، ومنحازة لاحزاب لا لمشروع اصلاح ومراجعة، يرفضون فتح عيونهم على اثمان العناد والخطيئة. بينما يحمل ارشيف عمره ١١ عاما من اعداد الجريدة، وثائق واوراق "الاصلاح السياسي" الذي يمكنه ان يرسم لنا ممكنات الانقاذ، ويخبرنا ان الاوان لم يفت بعد. انه ارشيف نادر ولا شك، والشهادة الاكثر تنوعا على ما جرى، وجزء مما سيجري.
"عقبال ١٠٠ سنة" للمدى وقرائها، وسلام على العراق وأهله في اكبر محنهم.
شاهد اصلاحي في اكبر محنة
[post-views]
نشر في: 4 أغسطس, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
عماد الدليمي
استاذ سرمد انا من المعجبين بقلمك الحر ..والقارئين لك ..وكل عام وصحيفة المدى بالف الف خير