فاز شريط "23 آب 2008"(22 دقيقة)، إنتاج وإخراج أستاذة الدراسات السينمائية البريطانية لورا ميلفي والناقد السينمائي العراقي فيصل عبدالله والفنان الكندي مارك لويس، بالجائزة الثانية ضمن فقرة "الأفلام الأوربية القصيرة" في مهرجان "تي.موبايل" فروتسواف السينم
فاز شريط "23 آب 2008"(22 دقيقة)، إنتاج وإخراج أستاذة الدراسات السينمائية البريطانية لورا ميلفي والناقد السينمائي العراقي فيصل عبدالله والفنان الكندي مارك لويس، بالجائزة الثانية ضمن فقرة "الأفلام الأوربية القصيرة" في مهرجان "تي.موبايل" فروتسواف السينمائي الدولي، 24 تموز(يوليو)- 3 آب (أغسطس) الجاري. واعتبرت لجنة التحكيم المؤلفة من الفنان النمساوي كريستوف جيرارد والبرفيسور الألماني ماثياس مولر والأكاديمية البولونية إيزابيلا كوستوفيسكا، خلال حفل توزيع الجوائز ليل السبت 2 آب (أغسطس)، ان شريط "23 آب 2008" تمكن من "تقديم صورة باذخة في واقعيتها عن قدر المنفيين العراقيين التي كادت تختفي قصصهم في ظل الاحتلال الأميركي لبلدهم وبلغة لا تتكلف البلاغة، فضلاً عن بلاغة لغته التصويرية". يرسم الشريط، وعلى شكل مونولوغ طويل يسرده شقيقه فيصل من دون قطع او سيناريو معد، بورتريه عن المفكر والكاتب كامل شياع.
ويتوقف عند أبرز المحطات الحياتية التي مر بها "شهيد اليوتوبيا"، وتنقلاته بين أكثر من بلد الى لحظة اغتياله في بغداد ظهيرة 23 آب 2008 على أيدي قتله محترفين ومأجورين. ومن خلال السرد نتعرف على صورة مثقف يساري خارج التصنيفات التقليدية المستهلكة، متحرر من إلزامات الإيدلوجيات الضيقة وضغائنها. مثقف وجد ضالته في يوتوبيا تتأرجح بين الخلاص من لوثة المنفي وتداعياته القاسية، والبحث الصبور لحالم بفتح كوة أمل تنفض الغبار عن خراب الديكتاتورية وبما يضع مستقبل العراق وأهله على سكة التقدم والازدهار. وكما نتابع فان الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها عام 2003، وسقوط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان (أبريل) المخزي، شكل نقطة تحول دراماتيكية للكثير من المنفيين العراقيين. فان ذلك الغزو أزال نظاماً ديكتاتورياً من المشهد السياسي للأبد وبأيد ليست عراقية خالصة، فهو أطاح في ذات الوقت بأسباب موضوعية كان يتداولها المنفّيون العراقيون في بلدان الشتات الواسعة. وكان من نتائجه خلخلة المصطلح التقليدي لمفهوم «المنفى/ المنفي» وقُلب رأساً على عقب له بفعل الممكنات الجديدة التي أتاحها ذلك الغزو للمنفي العراقي وانتفاء أسباب المنفى المعلنة. وإزاء ذلك الحدث الدرامي الكبير، أُسقطت من يد المنفي العراقي أسباب وحجج موضوعية ووجيهة، كانت أقرب الى تعويذة يومية يُمنّي «المنفي السياسي» بها النفس على أمل العودة يوماً الى بلده. نهاية فصول قصة قاسية، وبداية لفصول قصة أخرى أكثر قسوةً كما يورد الشريط. في تتبعه لمسارات كامل شياع الحياتية، تتصاعد أحداثها وتتداخل بما هو شخصي وحميمي جمع الأخوين في رحلة الشتات الواسعة لغاية اتخاذ كامل شياع قرار العودة النهائية الى العراق في أواخر عام 2003، وتسلّمه منصب المستشار المميزّ في وزارة الثقافة العراقية.
ومثلما يسرد الشريط، فانّ المخاطر المحدقة بوجود كامل شياع في بغداد وسط المخاوف ودوامة القتل العشوائي وفوضى الخراب الضارب أطنابه في البلد، شكّلت أرقاً يومياً لعائلته، خصوصاً شقيقه الراوي. في المقابل، يتوقف الشريط عند «مؤهلات» مَن تولّى شأن وزارة الثقافة، مثل إمام جامع متهم بالقتل العمد وهارب،، وقبله رجل شرطة أمي، طرد من سلك الشرطة بتهمة التلاعب في عهد النظام السابق وغيرهم ممن جاءت بهم سياسة المحاصصات الطائفية بتلاوينها المذهبية والإثنية والبعيدين كل البعد عن مفهوم الثقافة.
يُختتم الشريط بجريمة اغتيال كامل شياع التراجيدية بعد عودته من «شارع المتنبي» الشهير في بغداد في 23 آب (أغسطس) 2008، ومنها استعار الفيلم ذو الإنتاج المستقلّ عنوانه. نُفذ الشريط بطريقة جمعت التوثيق الدرامي لقصة ظاهرها معلن، وأخرى صاغها الفنان والأستاذ مارك لويس من خلال تثبيت الكاميرا واقتناص تفاصيل جوانية للراوي عبر لقطة واحدة من دون قطع أو مونتاج. الكاميرا هنا (إدارة مدير التصوير مارتن تيستار) أُسندت لها مهمة تسجيل تفاصيل قصة غطت عقدين ونيف من الزمن، وكانت مهمتها اختبار تجريبي لممكنات الكاميرا الرقمية كوسيط لتسجيل حكاية متحررة من إلزامات وقواعد السرد المدرسية المتعارف عليها.
فيما افتُتح الشريط بلقطة طويلة عامة لروّاد «شارع المتنبي» من الجنسين ومن مختلف الفئات العمرية ذات يوم عطلة نهاية الأسبوع، صورها المصور الشاب فريد شهاب. في حين لم يفقد فيصل في أدائه، وبحثه عن الكلمات المناسبة وإيماءاته ، هدوءه في سرد قصة درامية هو جزء منها وراويها. ومثلما سجّل «23 آب 2008» حضوره السينمائي العالمي الأول في الولايات المتحدة الأميركية في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، فإنّ «مهرجان برلين السينمائي الدولي» شكل محطة انطلاقته الأوروبية بعد اختياره ضمن فقرة الأفلام الوثائقية التي عرضت في دورته الرابعة والستين في شباط (فبراير) الماضي. ولعل منح هذه الجائزة المهمة لشريط "23 آب 2008" الذي يتزامن مع اقتراب الذكرى السنوية السادسة لاغتيال كامل شياع يخرج عن إطار التكريم لفيلم سينمائي، إنما يؤكد الحاجة للنظر بجدية الى قيمة مشروع كامل شياع التنويري وموقفه الفكري لما يحمله من وعود غاية الأهمية في اللحظة الراهنة، وفي بلد بلغ الانحطاط القيمي والأخلاقي فيه قعر حضيضه.