كأن القدر أبى إلا أن يكونوا مرتحلين وهائمين في جهات الأرض، الترحال سمتهم، والنظرة الدونية من نصيبهم في كل مجتمع يحطون فيه، لا يُعرف بالتحديد من أين جاؤوا، هناك فرضيات كثيرة، كأنهم نبتوا في اللامكان، وعاشوا في الزمان واللازمان، يصنعون الفرح أينما حلّو
كأن القدر أبى إلا أن يكونوا مرتحلين وهائمين في جهات الأرض، الترحال سمتهم، والنظرة الدونية من نصيبهم في كل مجتمع يحطون فيه، لا يُعرف بالتحديد من أين جاؤوا، هناك فرضيات كثيرة، كأنهم نبتوا في اللامكان، وعاشوا في الزمان واللازمان، يصنعون الفرح أينما حلّوا، لكن نصيبهم منه قليل، لم يندمجوا في المجتمعات التي ارتحلوا إليها، لكنهم تكيّفوا، وإذا كان ثمة شعب قد أسيء فهمه وظلم على هذه الأرض فهم الغجر، تعرضوا عبر مراحل التاريخ الى إبادات منظمة لم يسمع بها العالم، أو سمع ولم يصغِ لاستغاثات من بقي منهم على قيد الحياة القلقة، كأنهم والريح صنوان لا يفترقان، تأخذهم حيث هبّت وارتحلت وحطّت، وتعود بهم متى شاءت وكيفما رغبت، الدراسات عنهم قليلة، وإن وصلت الى أصحاب القرار لشرح معاناتهم فإنها لا تجد آذاناً صاغية برغم صرخات أصحاب الضمير الإنساني من هنا وهناك وفي أوقات متباعدة.
من البحوث المهمة، الوافية، والدقيقة، ما قدمه الدكتور حميد الهاشمي في كتابه (تكيّف الغجر) الذي صدر عن دار المدى في العام 2012 وهو دراسة أنثربولوجية اجتماعية لجماعات الغجر، أو ما يسمون بالكاولية في العراق، صدر الكتاب عن دار المدى في العام 2012، بعشرة فصول، ضم كل فصل عدداً من الموضوعات، بدءاً من التعريف بالغجر، مروراً بتسمياتهم في العالم، وفرضيات أصولهم، وعاداتهم، ووشائج القرابة بينهم، وقبول أو رفض المجتمع لهم، والخصائص المشتركة للغجر في العالم، وتجارة الجنس، وأمور كثيرة تتعلق بحياتهم أينما وجدوا، وأخيراً وليس آخراً ما حلّ بهم في العراق تحديداً بعد العام 2003 من قتل وتشريد وسلب حقوق، وجاء البحث عميقاً وشاملاً وميدانياً وحيادياً في الطرح، معززاً بالبيانات والأرقام والشهادات، بجهد كبير، خصوصاً إذا ما علمنا أن هكذا موضوعة تستعصي على أي باحث يروم الدقة في المعلومات ويتتبع المصادر العراقية والعربية والعالمية لتقصّي الحقائق، واستخراجها من بين زخم الأحداث وفوضاها ومحاولات طمسها، وتأتي صعوبة البحث عن الحقائق للإهمال المتعمد في المجتمعات التي لجأوا إليها، والنظرة الدونية لهم، ما جعلهم شريحة منعزلة تحاول أن تتلوّن بأكثر من لون لتظل لغزاً يستعصي على الحل و(سراً مغلقاً لا ينفذ إليه أحد)
وبعد أن يستعرض الباحث حياة الغجر في العالم، يركز على الغجر(الكاولية) في العراق، حيث يأخذنا في جولة ميدانية لندخل معه في صلب حياتهم، وعاداتهم، ومعتقداتهم، ومهنهم، ونظرتهم الى الدين والطقوس المتعلقة به ومدى التزامهم بأركانه من عدمه، ومكانة المرأة في المجتمع الغجري.
سنتتبع في هذا الكتاب ارتحالات الغجر، بدءاً من رحلتهم الأولى من الهند (فرضية موطنهم الأول الأكثر ترجيحاً من بين الفرضيات)، ثم تشردهم وتكيفهم في كل مجتمع يدخلونه، تكيّفهم وليس اندماجهم، يقول الدكتور حميد الهاشمي للتفريق بين التكيف والاندماج: التكيف الاجتماعي هو غير الاندماج الاجتماعي الذي يقتضي التخلي عن الكثير من العادات والممارسات القيمية من أقلية ما لصالح الأغلبية، بمقابل ذلك تحصل هذه الأقلية على المزيد من الفرص والامتيازات لصالح أفرادها الذين يشاركون المجتمع الأكبر ويتواصلون معه.. أما التكيف فيكاد يكون ظاهرياً ومصطنعاً من أفراد أو جماعات، من أجل تجنب ردات الفعل التي تواجههم جراء ممارساتهم الثقافية المتقاطعة مع ثقافة المجتمع الأوسع أو ثقافة الأغلبية..ص12، و13.
وهكذا نبدأ الرحلة التي لا تنتهي، رحلة الغجر من المكان الأول حتى التشظي في المجتمعات التي وصلوا إليها، وقدر تعلق الأمر بالعراق فإن البحث الميداني الذي قام به الدكتور حميد الهاشمي، وضعنا في صميم المشكلة المستعصية على الحل عبر عقود وعقود، كتب عن هذه الشريحة بمصداقية نادرة، ما لها وما عليها، ثم وضع مقترحات للعلاج، لعلها تصل يوماً الى الضمير الإنساني وتنصف هؤلاء الذين ضلوا الطريق وارتزقوا على مِهن تحط من قيمة البشر ولم يتأهلوا لحياة طبيعية ونظيفة، بفعل السياسات السلبية التي لم تؤهلهم لمِهن تعيد لهم كرامتهم المهدورة.
يسمونهم، في العراق، الكاولية، فمن أين جاءت هذه التسمية؟ قبل ذلك يستعرض الدكتور حميد الهاشمي تسمياتهم في العالم، يتتبعها من موطنهم الأصلي، ثم يخصص المساحة الأوسع لتسميتهم بالكاولية في العراق، يمر على الآراء، يناقشها ويحاجج أصحابها، ما طرحه العلامة مصطفى جواد والأب أنستاس الكرملي والأستاذ شاكر الضابط، والأستاذ خليل الشيخ، وما جاء في القاموس الفارسي، مُقرّباً هذا الرأي ومُبعداً ذاك مع ذكر الأسباب، ثم يطرح الباحث فرضيته في التسمية وفي أصل الغجر، فقد انتسبوا الى الملك (كاول) تشرفاً وتعظيماً لأنفسهم، ويستشهد الباحث بما كتبه وول ديورانت في قصة الحضارة والتي نلخصها هنا( بأن الزنا في الأعم الأغلب كان مقصوراً على المعابد، وكانت رغبات الرجل الشهواني تشبعها من يطلق عليهن (خادمات الله) طائعات في ذلك أوامر السماء، وفي كل معبد مجموعة من النساء المقدسات اللائي استخدمهن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاع الكهنة والبراهمة، وبعض هؤلاء النسوة فيما يظهر قصرن حياتهن على عزلة المعابد وكهّانها، وبعضهن الآخر قد وسع من نطاق خدماته بحيث يشمل كل من يدفع أجراً لمتعته) إن هذا النص- يؤكد الباحث حميد الهاشمي- يدل دلالة قاطعة على التسمية بالنسبة للكاولية، وكذلك لفرضية أصل مهنة الغجر.
وبناءً على الكثير من البحث الذي قام به الدكتور حميد الهاشمي فإن الغجر تعرضوا لإبادات جماعية منظمة ومُمنهجة، خصوصاً من حكومة ألمانيا النازية ومن بعض حلفائها لغرض التصفية العرقية، شأنهم في ذلك شأن اليهود، لكن الفرق أن اليهود وجدوا من يدافع عنهم، في حين لم يدافع أحد عن الغجر ولم تسلّط الأضواء عن الجرائم التي ارتُكبت بحقهم، وقد صنّفهم النازيون بأنهم قوم غير مرغوب فيهم، وبالتالي فهم لا يستحقون الحياة، وهكذا قضى الآلاف منهم في معسكرات الاعتقال وفي مصانع الموت، ولقد ساق النازيون وأفنوا من الغجر 650 ألفا خلال الحرب العالمية الثانية، هذا إضافة الى التعذيب وسلب الحقوق وتقييد الحريات والزج بالمعتقلات، وظل العداء متجذراً ومتجدداً عبر الأزمنة وتعدد الأمكنة، ولقد كشف الباحث لنا حوادث بالأرقام عما جرى وأعِدّ لهم في الخفاء وفي العلن في أماكن كثيرة من العالم، وأورد أمثلة على ذلك، يمكن الرجوع إليها في الكتاب الذي يُعدّ وثيقة مهمة للدراسة والبحث.
ويبين الدكتور حميد الهاشمي بأن هناك موجات متعددة من الغجر جاءت الى العراق بعد هجرتهم الأولى، لكن الغجر ظلوا عبر سنوات عيشهم في العراق أجانب وغرباء على الدولة العراقية الحديثة منذ نشأتها في العام 1921 وحتى الآن.. أما أماكن تواجدهم التقليدية قبل التهجير فهي، الكمالية، الفوار، الخضر، الشوملي، الشطرة، كنعان، الزبير، أبو غريب، والسحاجي، لكن البحث الميداني الذي قام به الدكتور حميد الهاشمي تركز على منطقتي، الكمالية والفوار.
كتاب (تكيف الغجر) الذي يقع في 260 صفحة معززة بالبيانات الميدانية وموثقة بالصور، لا يمكن إيجازه بهذه العجالة التي تحتمها المساحة المحدودة للنشر، فهناك أبواب كثيرة كل واحد منها يحتاج الى وقفة متأنية، لكننا ندعو لمن يهتم بهذا البحث الاجتماعي المستفيض والمكثف أن يطّلع على الكتاب الذي يعد إضافة نوعية للبحوث الاجتماعية.