القسم الثاني
كلما بحثنا في طبقات الحضارات الإنسانية وجدنا أن معظم تراث الأمم الثقافي والديني ينطوي عل طبقات تراكمية من أشكال التشدد المموهة أو المعلنة . وتمثل كل طبقة حقبة زمنية معينة ولا يسلم دين من الأديان السماوية والأديان الوثنية والمذاهب والأيدولوجيات والثقافات الشعبية من نزعات تعصب تتفاوت في تفاقمها صعودا وهبوطا خلال الأزمات السياسية والحروب وتكشف لنا مدونات الشعوب الأخرى وتراثها أننا لسنا الشعوب الوحيدة التي ترسخت مفردات التعصب في ذاكرتها وشكلت سمة سلوكها إزاء الآخر المختلف، فقد وسم التعصب سلوك الشعوب البدائية والمتحضرة على مدى العصور.
وعندما انبثق عصر التنوير في أوروبا برز مفهوم حرية الفكر والتسامح فأقدم مفكروها على دراسة ظاهرة التعصب وفككوا أسبابها ومظاهرها وتوصلوا الى تحديد دوافع مختلفة للتشدد واقترحوا طرائق العلاج وإن لم ينجحوا لصعوبة الأمر ورسوخه، وما لبثت ان ظهرت أشكال مستحدثة من التشدد نتيجة الهجرات والتغييرات الديموغرافية التي سببتها الكوارث والحروب.
لطالما غذى الفهم الظاهري للدين نزعات التشدد التي وظفتها السياسة لأغراضها ودفعت بالمتشددين بذريعة الحفاظ على الدين ، لإقصاء المختلف وقتله فيتساءل ياكوبوتشي في كتابه "أعداء الحوار" : كيف نقتل المختلف باسم الإيمان ونعلم ان الإيمان الحقيقي يهدئ المخاوف البشرية ويدعو للمحبة بين البشر؟؟ ويجيب على تساؤله : " إن من يؤمن بطريقة سطحية متشددة دون عمق روحاني، مستعد للتضحية بحياته المليئة بالمعاناة وانعدام القيمة للفوز بسعادة موعودة.
ولكن ماهو المنطق الذي يمكن أن يدفع الى هذا النوع من الحرب الإيمانية والتضحية بالنفس ؟؟ هنا يتعلق الأمر بالثقافة الموروثة اكثر مما يتعلق بالدين ويعني ان منظومة المعتقدات والعادات التي نسميها ( ثقافة ) تعني لنا أشياء كثيرة ولكي نحافظ عليها فنحن مستعدون لدفع ثمن باهظ لأنها تتعلق بوجودنا القيمي ومكانتنا – اذن ماهو هذا السر الذي يمنح كلمة "ثقافة" تلك القوة التي يتمتع بها التعصب الديني لدرجة انها تهزم غريزة الحياة لدى البعض وتحولهم إلى سفاحين؟ إنه غياب الثقافة الراقية التي تمثل الحالة الاسمى للنفس الإنسانية لأنها مصدر أكيد للعدالة وتجاوز الحواجز بين البشر، فالثقافة الحية توسع آفاق الإنسان وتؤدي الى انفتاحه نحو الآخر المختلف فإذا تدهورت الثقافة الراقية تفككت الروابط المجتمعية، وحينها تتحفز الثقافة الموروثة بثقل عناصرها من المعتقدات والتقاليد والقيم المشتركة وأنماط السلوك لتدافع عن ديمومتها بشراسة وتتبنى رفضا متشددا لكل مختلف عن سياقاتها.
لقد رأى "جان جاك روسو" أن الانسان الطيب يتحول الى مفترس بسبب تأثير المجتمع المدمر ، بينما رأى " توماس هوبز" ان الانسان ينطوي على ( السفاح – الذئب) في كيانه وان الحالة الطبيعية تقوم على الحرب والصراع ونعلم إن هوبز كان من انصار السلطة المطلقة للحاكم الفرد ، في حين رأى الفيلسوف "جان لوك" الذي يعد المبشر الأكبر بالليبرالية ،ان الحالة الطبيعية تتسم بالمساواة والسلام فالانسان كائن اجتماعي بالمقام الأول ، وبامكانه التعايش وترسيخ التضامن ، شرط ان لاتعتدي الدولة على الناس بسلطة الدين وأن لايحكم الحاكم باسم تلك السلطة ولابد من الفصل بين الدين والدولة ليعم التفاهم والسلام والرحمة بين البشر واستنادا إلى نظرية هوبز تبدو عملية التحضر التي مرت بها الانسانية قد أبقت شيئا يتشارك فيه الإنسان و الحيوان وهو إظهار التوجس والعداء إزاء الغريب المختلف الذي يمثل خطرا مهددا، فيشتد التعصب الذي يمثل فضاء هائلا للتوحش والعنف ضد الآخر المختلف ،هذه واحدة من فرضيات أسباب التعصب التي سنناقشها لاحقا.
يتبع
التعصب : بين التشدد الديني والثقافـي
[post-views]
نشر في: 9 أغسطس, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
Nabeel salman
يجادل الكثيرين ان العلمانية والليبرالية لا تصلح كنظام لللحكم في بلاد العرب والمسلمين لوجود ثوابت الدين التي لا يستغنى عنها في حياتهم اليومية....!!! بماذا تجيبينا رحمكم الاله .
نويل مبيض
تحليل تاريخي ممتاز.ان التعصب بكل اشكالة مصيبة وبلاء، خاصة التعصب الديني الذي يصل الى حدود المطلق الرافض للمخالفين وغير المؤمنين. الطريق الوحيد لنكون أمة متحضرة، ان نفصل الدين عن السياسة ونبني أنظمة ديمقراطية تستند الى الميثاق الدولي لحقوق الانسان. الديمقر