TOP

جريدة المدى > عام > غابريله.. شاعر مغوٍ مبشر حرب

غابريله.. شاعر مغوٍ مبشر حرب

نشر في: 11 أغسطس, 2014: 09:01 م

في 7 آب 1915، شرع غابريله دانونزيو وجوزيبه ميراليا بالطيران من فينيسيا في طائرة قاصدين تريسته، التي كانت وقتذاك ما تزال جزءا من امبراطورية النمسا- المجر، مع حمولة قنابل ومنشورات دعائية. ميراليا، قائد الطائرة، كان ضابطا عسكريا في الثانية والثلاثين من

في 7 آب 1915، شرع غابريله دانونزيو وجوزيبه ميراليا بالطيران من فينيسيا في طائرة قاصدين تريسته، التي كانت وقتذاك ما تزال جزءا من امبراطورية النمسا- المجر، مع حمولة قنابل ومنشورات دعائية. ميراليا، قائد الطائرة، كان ضابطا عسكريا في الثانية والثلاثين من العمر؛ دانونزيو، في مقعد المسافر، الأكبر بعشرين عاما من رفيقه، كان شهيرا في أرجاء ايطاليا، اوروبا وما وراءهما ككاتب، فاسق وقومي متطرف. كان يحمل دفتر ملاحظات يدوّن فيه انطباعه عن فينيسيا من الجو ( (( القنوات الملتفة خضراء كما الملكيت [ حجر نحاسي أخضر اللون ] )) ) وكتب رسالة الى ميراليا: (( هل ترغب ببعض القهوة؟ )).
بوصولهما الى تريسته، تعرّضا الى إطلاق النيران. هبط ميراليا على علو منخفض فوق حوض للسفن. رمى دانونزيو القنابل على الغواصات النمساوية والمنشورات ( التي كتبها بنفسه ) على الساحات. في طريق عودتهما، لاحظا ان واحدة من القنابل بقيت عالقة. (( أنظر إن كان يمكنك دفعها حتى تقع، )) كتب ميراليا في دفتر ملاحظات دانونزيو. (( لكن لا تدوّرها. )) لا بد انه نجح في ذلك بطريقة ما، لأنهما هبطا سالمين عائدين الى فينيسيا. دانونزيو (( كان قد ترجل من الطائرة الى حياته الجديدة كبطل قومي ))، تكتب لوسي هيوز هاليت في سيرتها الجديدة الساحرة عن (( الشاعر، المغوي ومبشر الحرب )).
وُلِد دانونزيو في آبروتزو عام 1863. والده، مالك أرض وتاجر نبيذ، كان عمدة لبيسكارا، على البحر الادرياتيكي. في عمر الحادية عشرة، أُرسِل دانونزيو الى مدرسة داخلية في براتو. نشَرَ كتابه الأول، ديوان شعر " قصائد أولى "، حين كان في السادسة عشرة من العمر، على نفقة والده. حظي الديوان بنقد جيد في المجلة الاسبوعية الثقافية المؤثرة فانفولا ديللا دومينيكا. قبل أن تصدر في السنة التالية الطبعة الثانية الموسعة بوقت وجيز، استلم ناشر جريدة في فلورنسا بطاقة بريدية مجهولة من بيسكارا تقول أن دانونزيو سقط من فرسه ولقى حتفه. الخبر، الذي نُشِر في صحف ايطاليا كلها، لم يكن له أساسا من الصحة: دانونزيو – الذي لم يُظهِر ملكة نفيسة ككاتب بل أيضا موهبة في ترويج الذات – كان أرسل البطاقة بنفسه.
بعد ذلك، لم يعد هناك شيء يوقفه. لاحقا، كان في روما، كاتبا بوفرة – شعرا، صحافة، قصصا قصيرة؛ مسرفا في الإنفاق على نحو غير عادي – مهما كان يكسب، قليلا أو كثيرا، كان يعيش دوما في أكثر من حدود دخله، مع ضعف مهلك تجاه الديكورات الداخلية المبذرة؛ والصلات الجنسية غير الشرعية. نمط حياته كان تحدد. للسنوات العشرين التالية، سيمعن في بحثه الذي لا ينقطع عن الإثارة – ركوب الخيل، صيد الثعالب، قيادة الدراجات النارية، الطيران، وجنس لامتناهي، لامتناهي – في الفترات التي توقف فيها عن الكتابة. كتب روايته الأولى من سبع روايات، " متعة "، في خمسة أشهر في 1888، عازلا نفسه في بيت صديق في آبروتزو. البطل، اندريا سبيريللي هو شاب فاسق ضجر من الحياة في روما. أُعجِب هنري جيمز بـ (( الإحساس المفعم بالحيوية الرائع )) للرواية و (( الاسلوب المسهب المتقن )) ( واحد من الأسباب الذي جعل الرواية تبدو حداثية ). هي ايضا بيعت على نحو واسع، محوِّلة دانونزيو الى كاتب شهير عالميا.
المشكلة التي تواجه كاتب السيرة هي أن جاذبية دانونزيو الشخصية تبدو أنها تكمن في صوته وفي بسالته الجنسية، اللتين من الصعب نقلهما على الصفحة. شهيته الجنسية النهمة خلّفت قافلة من النساء المدمَّرات، متبرّأ منهن من قبل الآباء، مهجورات من قبل الأزواج ومودعات في ملجأ المجانين. أنانيته الفوقبشرية، بلاغته القومية الحانقة التي تدعو الى نَقْع الأرض بالدم: هي كافية بشكل واضح. لكن علينا ببساطة أن نصدّق الجميع بأنه كان جذابا على نحو لا يُقاوَم ( حسن، لا الجميع تماما: كان هيمنغواي يعتقد أنه (( شخص أبله بوضاعة ))، والمحظية ليان دو بوغي وصفته بـ (( قزم خرافي بغيض بعينين حمراوين بلا رموش، لا شعر، أسنان مخضرّة، نَفَس كريه وسلوك دجال. )) ) واحد من أفضل الأوصاف لصوت دانونزيو الساحر يرد على لسان الابنة المراهقة للمؤلف الموسيقي بيترو ماسكانيا: (( عندما يتحدث السنيور دانونزيو، يبدو دائما كا لو أنه يبوح بسرّ. حتى لو كان يقول صباح الخير. )) كانت التقته في باريس، حيث فرّ عام 1910، بعد أن عجز على التملّص من دائنيه.
عاد الى الوطن مظفرا في أيار 1915، مدعوّا الى إلقاء كلمة في إزاحة الستار عن نصب لغاريبالدي في كوارتو، قرب جنوا. أطلق صوته السحري على الحشد الواسع الذي تجمّع لتحيته – مائة ألف منهم، طبقا لصحيفة كوريرا ديللا سيرا، عندما وصل روما يوم 12 أيار – داعيا ايطاليا الى الدخول في الحرب وإتمام وحدة الوطن بضمّ مناطق واسعة من امبراطورية النمسا- المجر. في 23 أيار، أعلنت ايطاليا الحرب على النمسا- المجر – رغم ان القرار كان أتّخِذ بشكل نهائي أثناء وجود دانونزيو في فرنسا.
المذبحة الجماعية وورطة الثلاث سنوات في دولوميتي [ الجبال الفاصلة بين ايطاليا والنمسا، وكانت خط جبهة في الحرب العالمية الأولى ] لم تفعلا شيئا في إضعاف حماسة دانونزيو للحرب. فقد الكثير من أصدقائه، منهم ميراليا، وفقد بصره في عين واحدة على نحو دائم حين تعرضت طائرة كان فيها لإطلاق النار. لكن بعد الهدنة كتب: (( أشم نتانة السلام. )) ولم تنته الحرب بالنسبة لدانونزيو: في أيلول 1919 قاد جيشا من مقاتلين غير نظاميين ومتمردين داخل المدينة المتنازع عليها، فيومه ( هي الآن رايجيكا في كرواتيا ) ونصّب نفسه دكتاتورا. لخمسة أشهر، حكمَ مثل دوق حتى قصفته البحرية الايطالية و أخرجته من المدينة.
في شباط 1921 انتقل الى منزل على بحيرة غاردا حيث سيعيش في شبه عزلة حتى وفاته عام 1938، مكرّسا نفسه لبهجات الكوكائين، الجنس وتصميم الديكورات الداخلية. كان تقاعده ممولا بالكامل من قبل الحكومة الفاشية، التي كانت حريصة على الاحتفاظ به هادئا وبعيدا عن طريقها. أراد موسوليني أن يروّج دانونزيو باعتباره يوحنا المعمدان بالنسبة للمذهب الفاشي، الأمر الذي سيكون أسهل إن كان الرجل نفسه، المخالف لهذا الرأي، بعيدا عن الساحة.
(( برغم أن دانونزيو لم يكن فاشيا، )) تلاحظ هيوز هاليت، (( كانت الفاشية هي دانونزيو. )) كتب في عام 1892 أن (( البشر سيكونون مقسومين الى عِرقَيْن. سيكون للبشر من العرق الأعلى، الذين رقّوا انفسهم بالطاقة الخالصة لإرادتهم، كل شيء مسموحا ، وللبشر من العرق الأدنى لا شيء، أو الشيء القليل جدا. )) معجبة ببعض من أعماله، ومصرّة على النظر الى دانونزيو ضمن بيئته، فعلت هيوز- هاليت ما وسعها لتمسك عن الحكم على حياته: إنها، كما تقول، (( امرأة تكتب عن ’’ شاعر رجولة ‘‘ منتحل لنفسه صفة بدون وجه حق ونصيرة سلام تكتب عن مثير حرب، لكن الإستهجان هو ليس إستجابة مشوِّقة )). قائلة هذا، هي التي دعته في أحيان كثيرة بـ (( المروِّع )). كما هو حقا بأوجه عديدة. قد لا يكون الاستهجان دائما مشوقا، لكن أحيانا لا يمكن تجنبه.
 عن: الغارديان

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram