تجربة الإخفاقات المتكررة، وتَبَدُّد الأمل طوال ولايتي المالكي الحزينتين، يجعل من التشبث المبكر بالأمل والتفاؤل رديفاً للإحساس بالإخفاق، وكأن هذا الإحساس قدر العراقي وناقته التي يتجول بها بين الخرائب وأشلاء موتاه، تذكره كلما سها، بأطلال الماضي السعيد
تجربة الإخفاقات المتكررة، وتَبَدُّد الأمل طوال ولايتي المالكي الحزينتين، يجعل من التشبث المبكر بالأمل والتفاؤل رديفاً للإحساس بالإخفاق، وكأن هذا الإحساس قدر العراقي وناقته التي يتجول بها بين الخرائب وأشلاء موتاه، تذكره كلما سها، بأطلال الماضي السعيد وتحذره من الإفراط بالحلم.
ولكن طيفاً كابوسياً ظل يرهق ضمائرنا بات قيد "الترقين" بإعلان أولي لرحيل الطيف الكابوسي، وتكليف رئاسي للسيد حيدر العبادي بتشكيل حكومة القاعدة السياسية والشعبية الوطنية الواسعة. ويظل السؤال، ونحن في أول خطوة على طريق التغيير، هل سيتحقق بهذه الخطوة تحولٌ نوعي لطي صفحة الماضي الكارثي، أم ان وهج التغيير هذا سرعان ما سيخبو، ثم ينطفئ، ليؤشر مبكراً لعملية تبادل شكلي، لا ينوش جذر الخراب ولا يعالج اصل العلة، ولا يفتح باباً واسعاً للأمل المؤجل، ليفضي إلى عراقٍ من حق شعبه ان يحلم دون خوفٍ من سراب الوهم المتمدد من الماضي..؟
ربما يدرك المكلّف بتشكيل الحكومة الجديدة، ان إرثاً مزدحماً بالمشاكل والإخفاقات ينتظره، وهو ما يقلق أي مسؤول جادٍ في ان يحقق اختراقاً إيجابياً يعيد الثقة لكل عراقية وعراقي، بغض النظر عن الهوية او المكون، ويفتح امام الجميع باب الرجاء بإعادة بناء عراقٍ جديد، ديمقراطي اتحادي معافى. ومثل هذا الإدراك بالإرث والمسؤولية الوطنية، يتطلب رجل دولة، يرتقي باحساسه وادواته الى مستوى التحديات التي لا سابق لها منذ تشكيل اول حكومة بعد اسقاط الدكتاتورية في عام ٢٠٠٣. ولا يكفي الاحساس لوحده، وليس في الأدوات قوة ساحرة، لتكون أساس تَشَكُّل "رجل الدولة"، بل وليست النوايا والاداء وسيلتيه الضامنتين، وانما الضمان الى جانب ذلك كله، المنهج والتوجهات وفريق العمل، والنزوع نحو بناء دولة المؤسسات والحريات وحقوق الانسان واعتماد الدستور، وإعادة الهيبة والاستقلالية للسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
ان من بين المهام الأولى للحكومة الجديدة، اعادة بناء ما تخرّب من شبه الدولة القائمة، واستكمالها، على قاعدة المؤسسات الديمقراطية المُنتَهَكة، وتطهير أجهزتها من الأدران المرضية المعدية، ومكافحة الفساد المالي والاداري دون هوادة أو رحمة، واصلاح القضاء والعمل على اعلاء شأنه وكلمته، وضخ الجرأة في مفاصله، ليكون عصياً "باعتماد الدستور والعدالة والقيم السامية" على السلطة التنفيذية، والاوامر الفوقية التي تخدش كرامته وتحط من مكانته وتفقده ثقة المواطنين العزل.
لكن في اساس كل هذه المهام، الحاق الهزيمة بالإرهاب، ممثلاً بداعش وأخواتها التكفيرية، وتحرير الاراضي التي استباحتها وتسلطت عليها. وهذا يتطلب طائفة مترابطة من المهام والقرارات، وفي المقدمة منها إعادة بناء الجيش والقوات المسلحة والاجهزة الاستخبارية والامنية على اساس عقيدة وطنية، بمنأى عن اي لوثة طائفية او حزبية او غيرها. لكن ذلك يحتاج الى البدء بالمصالحة الوطنية "المجتمعية" لا الفوقية المعزولة، الفاسدة الخاضعة للمناورات السياسية وأحابيلها التي باتت مكشوفة للعيان. ويتحقق ذلك بالترابط والتزامن مع تفكيك حواضن الارهاب، والملاذات الآمنة القائمة على قاعدة "سياسة الاقصاء والتهميش والترهيب".
في ظل انطفاء جذوة الأمل، طوال العهد السابق، والحرمانات من ابسط وسائل العيش والخدمات، وفي بيئة الفوضى الأمنية وانفلات الإرهاب والقتل والتصفيات على الهوية، اصبح الهم المقلق للمواطن، ثالوث "بيئة آمنة توفر السلامة والاستقرار، وعدالة اجتماعية وما تعنيه من لقمة حلال وعيش كريم، مسورة بالحريات العامة والخاصة في اطار الدستور وأحكامه".
ولا إمكان لإنقاذ العراق من الكارثة التي حلّت عليه، إلا بتكريس حالة توافقٍ وطني، يأخذ بالاعتبار القلق من الهيمنة على الآخر بوسائل السلطة الغاشمة، والاحساس بالاقصاء "والدونية في سلم تدرج المواطنة وفقاً للهوية الفرعية" واغفال التداعيات التي سبّبها نهج التمييز الطائفي والاستهداف القومي الشوفيني "في جوهره" ، وعدم الاخذ بالاعتبار الحقائق التي أفرزتها الوقائع المريرة على الارض بعد ١٠ حزيران باحتلال الموصل وثلث الأراضي العراقية. وفي هذا السياق يتوجب على السيد العبادي استدراك الاخطاء الفادحة في التعامل مع الاقليم، وهو ما يدعوه لنحت مفردات لغة جديدة في المخاطبة مع قيادته، كما هو الحال مع المكون السني، والقوميات المتآخية، اذا أُريد للعراق ان يظل في اطار يجري اصلاحه وتكييفه بالصيغة التي تؤدي الى احتواء جميع المكونات وتجسد الطيف الوطني بتنوعه الخلاق.
ليس هذا سهلاً، ولا ميسوراً .
لكنه "سهلٌ ممتنعٌ " يمكن لرجل دولة، وطني السيرة والسريرة ان يفك حروفه، ويصنع منها "تميمة" تعيد لشعبنا الأمل والحلم..
وللعراق الصحوة والانبعاث..