TOP

جريدة المدى > تقارير عالمية > من المنبع إلى المصب.. الرجل الذي يسير مع النيل

من المنبع إلى المصب.. الرجل الذي يسير مع النيل

نشر في: 12 أغسطس, 2014: 09:01 م

في العام الماضي، شرع ليفيسون وود بالسير بموازاة نهر النيل من المنبع الى البحر، وانضم اليه صديقه أشوين بهاردواج في السودان للمساهمة بهذه الرحلة غير الاعتيادية." في ساعة متأخرة من اليوم، عثرت على بغيتي: ثلاثة جمال ورجلان يسيران على قدميهما، يرتديان الج

في العام الماضي، شرع ليفيسون وود بالسير بموازاة نهر النيل من المنبع الى البحر، وانضم اليه صديقه أشوين بهاردواج في السودان للمساهمة بهذه الرحلة غير الاعتيادية.
" في ساعة متأخرة من اليوم، عثرت على بغيتي: ثلاثة جمال ورجلان يسيران على قدميهما، يرتديان الجلابية البيضاء لعرب ارض النيل، واستدار الرجلان وأمعنت في وجهيهما: انه هو بالتأكيد، توقفت السيارة مثيرة سحابة من التراب، وقفزت وانا أصيح: " كابتن وود، كما أظن؟ "
ابتسامة عريضة انتشرت على الوجه ذي اللحية العريضة، وامسك بي محتضناً إياي " أمر حسن ان أراك، دعني ابحث عن الطعام.! "
انا في السودان، 100 ميل شمالاً عن العاصمة الخرطوم، على اطراف صحراء بايودا، وفي رأي السلطات ان هذه المنطقة لاتصلح لقضاء العطل، وحتى ان السفارة السودانية رفضت أول طلب للفيزا قدمتها بقولها: " لايذهب السياح مطلقاً الى السودان لثلاثة اسابيع "
(وكانوا على حق، لانها ليست " تمضية عطلة " فقد جئت للانضمام الى صديق قديم، وضابط بالجيش، ليفيسون وود رحلته الاستكشافية للسير متتبعاً نهر النيل – أطول انهار العالم – والذي يمر بـ 6 دول ويقطع مسافة (4,250 ميلاً) من المنبع في رواندا الى المصب في الدلتا بمصر.
وهنا في السودان، سنقطع مسافة 25 ميلاً في اليوم الواحد، وقد وصل ليفيسون الى جنوب السودان في خضم حرب اهلية، ما دعاه الى تجنب أهوار المنطقة، وقال لي : " كان الأمر خطراً، لانهم يستهدفون الأجانب ايضاً، ولذلك تجنبتها " ، ولذلك اختار طريقاً آخر، سار على قدميه 250 ميلاً، " كل يوم يشابه الآخر – طريق مستقيم ، غبار، وتوقف السيارات، حتى اوشكت على التخلي عن الرحلة".
وعندما انضممت الى " ليف " كان قد استرد حماسه، مستمتعاً بالفرص التي يمنحها السودان، واجهنا كثباناً رملية برتقالية اللون، قبل الوصول الى أهرامات ميروي، وهي مدافن ملوك وملكات عاشوا قبل 2500 سنة، وكنا الوحيدين في المنطقة، وأحسست اني "انديانا جونز" نستكشف الأماكن، نزيل التراب ونستمع الى الحكايات القديمة للنوبة يقصها علينا دليل ليف، الذي انضم اليه عند الحدود ويسير معه هذه المسافة الطويلة في السودان.
وفي تلك الليلة خيمنا في الوادي مابين الهرمين، وقام البدويان المسؤولان عن الجمال، بصنع الشاي الحلو وإعداد العشاء من الفاصوليا والثوم المقلي والطماطم وتقديم الخبز معه، كانت الارض ممتدة امامنا باللونين الاصفر والرمادي، دون اي شيء يعوق المشهد الممتد، ولذلك كان الأفق يبدو بعيداً بشكل غير اعتيادي، وبدأت الشمس اخيراً بالغروب، ملونة العالم بالألوان" احمر، برتقالي وبنفسجي، وفي تلك الليلة الخالية من الغيوم، كان بإمكاني ان اعمل تخطيطاً للأهرامات والتي أزيلت قممها من قبل باحث ايطالي عن الكنوز في القرن التاسع عشر.
وفي السودان لانجد فقط التاريخ والمشاهد الطبيعية الجميلة، ولكننا نجد كرماً غير اعتيادي، إذ اننا في سيرنا، كنا نجد العديد من السيارات التي تتوقف وتدعونا الى الركوب، وعندما نحاول دفع نقود القهوة، في مقهى على الطريق، تقول العاملة ان الرجال في تلك الزاوية قد دفعوا النقود نيابة عنكم، مع اننا لم نتحدث اليهم قط، والتفتنا اليهم لتقديم الشكر، الا انهم كانوا قد صعدوا الى سياراتهم ولم يلتفتوا الى الوراء لتقبل العرفان بالجميل.
وفي تلك المنطقة من السودان ، شيدت الحكومة سداً على النيل من اجل توليد الطاقة الكهربائية، ولذلك تعتبر المنطقة من اشد المناطق حساسية، ولذلك لم يسمح لنا بالاقتراب منها، وكان الخيار الوحيد هو قطع صحراء بايودا، والسير بموازاة النهر، والالتقاء مع النيل في مدينة كاريما، وعندما توقفنا عن السير في المدينة التالية، اتبارا، وهناك تجد ايضاً في المقهى تقديم القهوة مدفوعة الثمن من اهالي المدينة، وكانوا فرحين لاننا نزور السودان، واخبرونا عن احتفال للصوفيين في قرية كاداباس، علماً ان انكليزيتهم كانت ضعيفة، وقالوا لنا ان القرية على الجهة الثاني من النيل، وبعد 48 ساعة كنا في فناء جامع كاداباس، اكثر من 10,000 صوفي من كافة ارجاء السودان كانوا هناك، مشغولين بالذكر، وقراءة مقاطع من القرآن بشكل منغم، بمرافقة الدق على الطبول، وكانت تلك التجربة رائعة حتى الثمالة ومفرحة ايضاً، مع انشاد كافة الحضور متمايلين مع النغمات بتقوى وتفان واخلاص.
وفيما بعد اخبرني ليف " ان الجهة التي تتولى تصوير الرحلة قد أجرت بعض الأبحاث ان الرحلة هذه ستكون موضوعاً لفيلم وثائقي يعرض على القناة 4 " ، ثم يضيف " انهم لم يعثروا على شيء عن احتفال كاداباس، نحن كما اعتقد اول من كتب عنه او قام بتصوير الصوفيين واحتفالهم، وهكذا كانت فرصة لقاء في مقهى السبب في دفعنا الى هناك، ان تقديم فيلم عن ذلك الاحتفال يعادل الرحلة باكملها ".
ولم نتأخر اكثر، وفي اليوم التالي حملنا الجمال بالأكياس والحاويات المعدنية، وبعد رحلة شمالاً بموازاة النيل لمدة يومين، كان علينا البدء رحلتنا عبر الصحراء، وهذا العبور وحده يستغرق ثمانية ايام، وليس هنا ما يؤكد عثورنا على أي شيء هناك، وقبل تلك الرحلة هيأنا الطعام والمؤن ومقدارا كافيا من الماء يكفينا لخمسة ايام، وكانت لدينا خرائط روسية، تظهر أماكن الآبار، ويؤكد لنا (أواد) مساعد الجمّال انه يعرف الطريق، وفي ستة ايام عبرنا بايودا، ليف ، مويز وانا، وأواد واحمد، البدويان المسؤولان عن الجمال، والتي عثر عليها ليف في الخرطوم، وكان معنا ايضاً د. ويل جارلتون، صديق آخر لـ ليف ولي من ايام الجامعة، والذي آثر طلب إجازة من الجيش للانضمام الينا.
كان الروتين نفسه سائداً في كل يوم: النهوض قبل الفجر، تناول الإفطار – شاي بسكت وبرتقالة – نشرب لترين من الماء، ثم نبدأ بالسير في الساعة السادسة والنصف، وكانت درجة الحرارة 28م5 (82 فهرنهايت) ونتوقف في التاسعة والنصف لتناول وجبة خفيفة، وفي الظهيرة تشتد الحرارة جداً ولانستطيع الاستمرار، فنلتجئ الى ظل قماش مشمع معلق من اجل تناول الغداء، وتتزايد درجة الحرارة عند الواحدة بعد الظهر، وهبت عاصفة قذفت بالرمال في كل اتجاه، ومزقت قطعة القماش المشمع الى قطع صغيرة، وفي الساعة الثانية بعد الظهر وصلت درجة الحرارة الى اقصاها وهي 49 درجة، وظهر قوس قزح حول الشمس واصبحت الحركة البسيطة متعبة جداً ولمسة للأرض تجعلنا نتعرق الى حد كبير، وادركت آنذاك، كميات المياه التي شربناها وتبخرت بعد قليل (استهلكنا ثمانية لترات من الماء يومياً)، وفي الساعة الثالثة اصبح الهواء نسيماً عذباً، واصبح الجو ملائماً لمواصلة السفر، سرنا حتى الساعة الـ 7 بعد الظهر، اذ ان الحماس يتصاعد مع البرودة، نجلس على الارض لتناول العشاء، ثم نستلقي للنوم في التاسعة والنصف ليلاً.
وبالتأكيد فان الصحراء تهدد بالخطر وهشاشة الحياة، ولكنها ايضاً مواجهة مع السمو والرفعة، التقدير والجمال، وهي مظاهر تثير احساساً بالرضا والقناعة والتواضع، وبعد مرور أربعة أيام، اعتدنا تلك الحياة، وفي خلال السير كنت افكر في أمور كثيرة مرتبطة بالحياة والعمل، أسئلة كنت اطرحها على نفسي بقلق طوال أسابيع واشهر، والان عندما فكرت بها، وجدتها اموراً سهلة و واضحة، اضافة الى الاعتياد على الصبر واعتدت المآزق ولم اعد انزعج منها، ففي لندن ان لم تعجبني (البيتزا) فهناك (السوشي)، وان ضجرت من العمل تركته، وهنا تعلمت على طعام معين، والمكان ايضاً، واعرف الى اين انا متوجه، ان المرء يحس بالتحرر إزاء عشرات الخيارات الأساسية التي لا معنى لها، تجابهك في المدينة يومياً.
وفي الأمسية الأخيرة لي مع ليف، كنا قد عدنا الى متابعة النيل، ويبدو أمامنا مزارع مسن حاملاً العلف للجمال وشاي لنا، يرفض اخذ النقود ويطلب منا البقاء في منزله، وانه قادر على ذبح خروف من أجلنا لتقديم وليمة لنا، وبأدب رفضنا دعوته، لأننا ادركنا، مما حولنا، ان في هذه القرية خروفاً واحداً.
ويغيب الفلاح في الظلمة، وفي خلال عشر دقائق يعود وهو يسحب عدداً من الأفرشة، سحبها مسافة 200 ياردة على الرمال، ان كنا لانريد النوم في منزله، فانه يلح على الاستعانة بالأفرشة العائدة اليه، وكان ذلك الأمر مثال تواضع لكرم الغرباء.
ان الزمن الذي أمضيته في السودان بدد كل توقعاتي، وكان اكثر فائدة مما كنت أتخيل، وان أرادت الحكومة السودانية تحسين علاقتها العالمية، فكل ما تحتاج اليه هو التوقف عن رفض اعطاء (فيزا) للسفر اليها.
وأمام ليف لإكمال الرحلة شهران، وفي الصباح أغادره، ويقول انه قد وجد ما يدل على تواجد كنيسة قديمة تعود للقرن الرابع من الميلاد، وانها على مفترق الطريق وهو ذاهب للبحث عن خرائبها او ما تبقى منها، وكان ذلك الخبر اكتشافا مهما آخر.
 عن: الديلي تليغراف

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التعديل الوزاري طي النسيان.. الكتل تقيد اياد السوداني والمحاصصة تمنع التغيير

حراك نيابي لإيقاف استقطاع 1% من رواتب الموظفين والمتقاعدين

إحباط محاولة لتفجير مقام السيدة زينب في سوريا

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برنامج دولي لتحقيق أمن غذائي دائم للمتضررين فـي العراق

برنامج دولي لتحقيق أمن غذائي دائم للمتضررين فـي العراق

 ترجمة / المدى في الوقت الذي ما تزال فيه أوضاع واحتياجات النازحين والمهجرين في العراق مقلقة وغير ثابتة عقب حالات العودة التي بدأت في العام 2018، فإن خطة برنامج الأغذية العالمي (FAO )...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram