TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هيدّا غابلر: اللغز

هيدّا غابلر: اللغز

نشر في: 21 أكتوبر, 2012: 04:55 م

لندن تتزاحم فيها دور المسرح، وفي هذه الدور تتزاحم العروض. وأنا الذي شغلت النفس في عروض الموسيقى والفن والسينما، تيسر لي بدعوة من صديق أن أحضر عرضاً لمسرحي أحب أعماله، ولعلي شاهدت عدداً منها في السنوات البعيدة. العرض لمسرحية "هيدّا غابلر"، والمسرحي هو النرويجي "هنريك إبسِن" (1882-1906). و"هيدّا غابلر" مألوفة لدي، فقد قرأناها مترجمة إلى العربية في الستينيات، كما رأيتها في عمل مسرحي مُخرج سينمائياً بالأسود والأبيض، أدت بطولته "أنغريد بيرغمان". والآن على مسرح The Old Vic، أحد أهم المسارح في العاصمة البريطانية.

هنريك إبسن نرويجي، ولكنه كتب كل مسرحياته باللغة الدنماركية، وعلى أرض غير أرض بلده النرويج. كتبها على امتداد حياته الابداعية المكثفة في إيطاليا والمانيا. ولكن أمكنتها نرويجية، بل محلية تعود إلى مدينته "سكين" المينائية. ولا تخفى أصداء حياته العائلية فيها.

رائد المسرح الذي يُكتب نثراً، بعد أن كانت الدراما شعرية في الأعم الأغلب. والعامل المهم وراء ذلك أن "إبسن" انتزع المسرح من دراما المُثل وكرسها للواقع المُعاش. مسرحياته بهذا المعنى تعالج الواقع الاجتماعي الحي، ولكن عبر النبش في ما يتخفى وراء ظاهر التقاليد الاجتماعية الصارمة من حقائق. الرائع في هذه المعالجة أنها أيقظت، بفعل تركيزها على الفرد لا المجموع، ذلك الالتباس الانساني الذي يسمح للهاجس الشعري أن يتفجر. ولهذا السبب كان "إبسن" ملهماً لعدد من الكتاب الذين عاصروه، والذين جاءوا بعده من أمثال برناردشو، اوسكار وايلد، آرثر مِلر، جويْس ويوجين أونيل. وما من غرابة إذن في مقارنة أحد النقاد شخصية "هيدّا غابلر" بشخصية "هاملت". فالالتباس الوجودي حاصل لدى الاثنين.

ظلت "هيدّا غابلر" عرضة لعدد من التأويلات المحيرة. في أول أيام عرضها (1891) كانت المسرحية صادمة للجمهور وللنقاد. لم تعد المرأة طرفاً في الحب، متألقاً أو مثقلاً بالجراح. خرجت عليهم هنا نزوعاً إنسانياً ملتبساً، يستحق الكثير من التأويل من أجل فهمه. هل هي ثائرة في وجه المجتمع، أم ضحيته المستلبة، أم مجرد كيان شرير؟

"هيدّا" تعود من شهر العسل مع زوجها الأكاديمي "تيسمان". واضح أنها لا تحبه بفعل ضعف شخصيته، ولكنها تزوجته لقهر الضجر الذي يعصف بحياتها. حتى أنها لم تكلف نفسها تغيير لقبها العائلي إلى لقب زوجها. يدخل الدراما أكاديمي يُدعى "لوفبورغ"، كاتب ناجح، ومنافس لزوجها في العمل الجامعي، وله علاقة بصديقة لها من أيام الدراسة كانت تعينه في تأليف كتاب يعتبره إنجاز العمر، الأمر الذي كان يثير غيرتها. في ساعة عربدة مخمورة يضيع "لوفبورغ" مخطوطة كتابه، ويزعم لـ "هيدا" أنه مزقها. في حين كانت المخطوطة في حوزتها، أخذتها من زوجها الذي جاء بها وقد عثر عليها مبعثرة.

"هيدّا" تراقب كل هؤلاء الضحايا دخل شبكتها: تحرق المخطوطة في الخفاء، تُفسد العلاقة بين الكاتب وصديقته، تثير هواجس "لوفبورغ" باتجاه الانتحار، وتعطيه مسدساً محشواً ورثته عن أبيها، وتدعوه إلى "موت حر وجميل"، على حد تعبيرها. ولكن الرياح تجري على خلاف رغبة السفن: إذ ان "لوفبورغ" يُقتل خطأ في بيت دعارة ليموت "موتاً رديئاً ومضحكاً"، وصديقته تحتفظ بكل مسودات مخطوطته وتشرع في إعادة كتابتها مع زوج هيدّا". ولكن سر المسدس يعرفه صديق مقرب للعائلة ظل شاهداً على الأحداث، ويوحي لها بذلك فتعرف أنها تحت سطوة رقيب، الأمر الذي دفعها، في آخر مشهد، الى أن تغادر الجمع الحائر لتقتل نفسها في الغرفة المجاورة.

"أنغريد بيرغمان" في الفيلم القديم، توفر طاقة عالية من التعارض بين وجهها الهادئ السمح وبين الغليان المعتم الذي يعتمل داخلها. ولعل "إبسن" يرغب في ذلك.

الممثلة "داريل دي سليفا" التي شاهدتها على مسرح The Old Vic لا تخلو من خفة دم، وشيطنة فتية، ومزاج حاد وقاطع. ولعل "إبسن" يرغب في ذلك أيضاً. لأن مسعى "هيدّا غابلر" سيظل "يملك منطقاً شخصياً بالغ السرية خاصاً بها"، على حد تعبير أحد النقاد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جنرالات الطائفية

العمود الثامن: لماذا لا نثق بهم؟

الصراع على البحر الأحمر من بوابة اليمن "السعيد" 

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

 علي حسين أعرف جيداً أن البعض من الأعزاء يجدون في حديثي عمّا يجري في بلدان العالم نوعاً من البطر لا يهم المواطن المشغول باجتماعات الكتل السياسية التي دائما ما تطابنا بـ " رص...
علي حسين

قناطر: الربيع الأمريكي المُذِل

طالب عبد العزيز هل نحن بانتظار ربيع أمريكي قادم؟ على الرغم من كل ما حدث، وقد يحدث في الشرق الأوسط، نعم، وكم هو مؤسف أن تتحرك دفة التغيير بيد القبطان الأمريكي الحقير، وكم قبيح...
طالب عبد العزيز

تضارب المصالح بين إسرائيل وتركيا في سوريا وعواقبه

د. فالح الحمـــراني كما بات معروفاً، أن وزير الدفاع الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو*، خلال لقاء حول موضوع الوجود التركي في سوريا، طرحا مقترحاً لـ"تقسيم سوريا إلى مناطق مقاطعات (الكانتونات)". وذكرت صحيفة إسرائيل هايوم عن خطة...
د. فالح الحمراني

النظام السياسي في العراق بين الخوف من التغيير وسؤال الشرعية

أحمد حسن لفهم حالة القلق التي تخيم على النخبة السياسية في العراق مع كل تغيير داخلي أو إقليمي، لا بد من تحليل عميق يرتكز على أسس واضحة ومنطقية. فالشرعية السياسية، التي تعد الركيزة الأساسية...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram