سرت باتجاه الغابة الصغيرة وأنا أفكر بالنقطة التي حولها جورج سورا الى مدرسة في الرسم وجعلها خطوة تحول وانعطافة كبيرة في حداثة الفن . في البوابة الرئيسية قطعت التذكرة التي من ضمنها دراجة هوائية أذهب بها الى المتحف وأعود . مضيت نحو متحف كرولر مولر في مدينة أوترلو وسط هولندا والذي يقع في غابة تحاذي ثلاث قرىً صغيرة ، والغابة هذه تقع ضمن ممتلكات أصحاب المتحف الذي يستضيف هذه الأيام معرضاً بعنوان ( أستاذ التنقيطية ) ، وهذا المعرض يشمل أعمال الفنان سورا ( 1859- 1891 ) الذي توفى وهو في الواحد والثلاثين من العمر ، ذهب شاباً وترك وراءه خمسين لوحة فقط مع مجموعة كبيرة من التخطيطات ، لكن مجموعة اللوحات هذه كانت كفيلة بإضاءة الطريق أمام جيل كامل من الفنانين وفتح نافذة ملونة وحديثة تطل على ما يسمى بالانطباعية الجديدة ، هذه المدرسة التي كانت حلقة الوصل بين الانطباعية واتجاهات مثل التعبيرية والوحشية . كانت الانطباعية في قمتها حين بدأت أعمال سوراه تثير الأعجاب والتفاعل من قبل الكثير من الفنانين والنقاد ، وهكذا الى أن انتشرت التنقيطية في بلدان عديدة مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا وغيرها ، حيث أن فنانين كبار ومهمين قد تأثروا بأعماله وأسلوبه في الرسم مثل فنسنت فان كوخ وجورج سيناك ويان توروب وماتيس وغيرهم . أستضاف المتحف 23 عملاً من أعماله الزيتية و24 تخطيطاً نفذها كلها بأسلوبه الممتع والجذاب .
يبتدأ المعرض بصور من باريس نهاية القرن التاسع عشر حيث الطليعية في أوجها وهي تداعب صفحات نهر السين ووجه باريس الجميل ، ثم يبدأ تسلسل تخطيطاته التي طورها ليبتكر من خلالها الأسلوب التنقيطي ، هو الذي كان يتعمد أن ينفذ هذه التخطيطات على ورق خشن تكسو سطوحه بعض الحبيبات فيظهر التخطيط وكأنه مرسوماً على شكل نقاط ، ومع الوقت طوّر هذا الأسلوب ليتحول بعدها الى الألوان الزيتية . تظهر وسط الأعمال لوحته الشهيرة الموسيقيون وراقصات الكانكان بحجمها الكبير وتقنيتها الفريدة ، أنظر أليها وأتأمل آلاف النقاط التي شكلت هذا العمل الخالد وكأنها نشارة حديد يحركها مغناطيس على سطح معدني . أستعمل سورا في الغالب فرشاة صغيرة للعمل حيث تركزت نظريته الفنية حول وضع الألوان على شكل نقاط على اللوحة ، فإذا أراد رسم شكل أو مساحة بلون أخضر مثلاً فأنه يضع مجموعة من النقاط باللون الأزرق تتخللها نقاط أخرى باللون الأصفر وهكذا أراد من مشاهدي أعماله مزج ذلك بصرياً لينتج عنه اللون الأخضر الذي هو مزيج من الأزرق والأصفر .
تأثر سوراه في بداياته بريمبرانت وغويا ، وخاصة في تخطيطاته التي نفذها بالأسود والأبيض ، وبعد أن درس الرسم سنة واحدة في مدرسة البوزار التحق بالعسكرية لينفذ هناك أعمالاً عن البحر والسواحل ، وبعد عودته الى باريس أستأجر مرسماً مشتركاً مع الفنان أدموند فرانسوا جان ليستمر في بحوثه الفنية التي أساسها مزج الألوان من خلال النقاط . لوحات سورا متقنة بشكل غريب ، ليس من حيث البناء والتكوين فقط بل من ناحية التقنية والمناخ العام أيضاً ، وفي أعماله الكبيرة التي رسمها في نهاية حياته القصيرة مثل السيرك وراقصات الكانكان بدأ يحرك شخصياته بانسيابية وسهولة خلافاً للوحاته السابقة التي كان يطغي عليها سكون البحر والمراسي والسواحل . تعتبر لوحته الموجودة في معهد الفن في شيكاغو ( ظهيرة يوم الأحد في جزيرة لاغراند شات ) التي رسمها سنة 1886 أعظم أعماله وهي التي فتحت الطريق أمام الانطباعية الجديدة.
الفنان الذي جعل من النقطة مدرسة فنية
[post-views]
نشر في: 15 أغسطس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...