احمد سعداوي خجول، وبسيط بساطة أبناء المدن والأسر الفقيرة التي انحدر منها، وخلف تلك البساطة عقل مركب عميق، يسعى للغوص في ما وراء الظواهر والكلمات والأشياء. عقل شغوف بالتجريب والمعرفة والاكتشاف. الحكواتي الأسمر سعداوي كاتب متعدد المواهب، يعرف أصدقاؤه
احمد سعداوي خجول، وبسيط بساطة أبناء المدن والأسر الفقيرة التي انحدر منها، وخلف تلك البساطة عقل مركب عميق، يسعى للغوص في ما وراء الظواهر والكلمات والأشياء. عقل شغوف بالتجريب والمعرفة والاكتشاف.
الحكواتي الأسمر سعداوي كاتب متعدد المواهب، يعرف أصدقاؤه انه وحتى في مستويات الحديث العادي يقوم بنسج حكاياته. ابتدأ بقصيدة النثـر حين تعرف على زملائه في "رابطة الرصافة للشعراء الشباب" عام 1996، ثم ما لبث ان أصدر مجموعة "my head" التي صدرت بطبعة تشبه طباعة ديوان للشعر وتضمنت اربعين رسماً كاريكاتيرياً لأشخاص مقطوعي الرؤوس، ثيمتها الأساسية تفسير العلاقة بين الرأس الجسد، وتسعى لتسليط الضوء على طبيعة الانسان ومصيره الشائك في الوجود. ولعل ذلك يفسر ميله الإبداعي المبكر للغرائبية السحرية التي تجلت في روايته الأخيرة "فرانكشتاين في بغداد" الفائزة بجائزة البوكر العربية.
سعداوي معلم، الا انه فضّل ان يقص حكاياته للناس على ان يتلوها على مسامع طلابه. عمل محررا وكاتبا في الصحف والمجلات، وفي اذاعة البي بي سي وقناة الحرة الامريكية، والى جانب ذلك، يستطيع ان يقدم لصديق مقرب تصميم غلاف لكتاب قيد الطباعة.
"المدى" التقت الحكواتي الأسمر سعداوي وهنا الأسئلة والأجوبة:
* ما هو شعور ان يفوز عراقي بجائزة البوكر العربية ؟
- كانت لحظة رائعة. الأشهر التي سبقت حفل البوكر متعبة نفسياً، ليس بسبب الانشغال بالنتائج، وانما بسبب الجو العام الذي يخلقه القراء والمتابعين للحدث، وكنت محظوظاً جداً بجلب هذه الجائزة للعراق والأدب العراقي، أكيد هناك كتاب آخرون يستحقونها في العراق، وقد ينالونها في دورات قادمة. والأدب العراقي لا يقل في قوته ورصانته عن الآداب العربية والعالمية الأخرى.
*الروائي والقاص الغربي المميز تحقق مبيعات أعماله أرباحا كبيرة، هل تتوقع ان يفتح فوزك بجائزة مرموقة أمامك أبواب الربح المالي مثلما فتح أبواب الشهرة الأدبية؟
- هذا امر تحكمه المصادفات. كل كاتب يطمح الى نيل مكافأة مادية على عمله الكتابي، ولكن التحدي يكمن في سوق الكتاب العربي، فمن المعروف أن حجم المبيعات، مهما كانت، ستبقى دون المستوى قياساً بمثيلاتها في أماكن اخرى من العالم.
أن تبيع نسخاً أكبر من كتابك، هذا يعني حصولك على أجر أكثر. وهذا قد يتحقق بصورة افضل مع الترجمات الى لغات أخرى، او تحويل الرواية الى عمل سينمائي.
* هل سيفتح فوزك بجائزة البوكر العربية مسارا جديدا للسرد العراقي؟
- ان حدث من هذا النوع سيثير الاهتمام اكثر للمشغل الروائي العراقي، وسيحفز كثيرا من المواهب الجديدة على الدخول بثقة في هذا المضمار الإبداعي، كما أن القضايا الفنية والمعرفية التي أثارتها روايتي، ستثير الأسئلة وتحفز التفكير حول سقوف الإبداع الروائي اليوم، ولكن المسارات الجديدة في السرد العراقي لا تحددها رواية واحدة او روائي واحد، وربما نحتاج الى زمن أكثر كي نعرف الأهمية الأعمق لما يجري اليوم من اشتغال روائي.
*هيمن انتاج الشعر منذ عقود طويلة على الفضاء الثقافي العراقي، الا تعتقد ان بإمكان الرواية والقصة ان تفتح اليوم ثقبا في جدار تلك الهيمنة؟
- أعتقد أن المهم ليس انتصار او ارتفاع جنس أدبي على آخر، او حتى مشاعر الارتياح لدى الضجرين من هيمنة الشعر على الثقافة العراقية. هذا كله ليس مهماً، بقدر أهمية الاحتفاء بالتنوع. الثقافات الحية والقوية تحفل بالتنوع، فنرى فيها شعراً قوياً بالإضافة الى قصة ورواية ومسرح وسينما قوية.
ربما ساهم تسيد الشعر في تعزيز "عقل شعري" يرتفع على الوقائع ولا يحفل بالتفاصيل الحياتية، ويهتم بالتجريدات العامة، وربما كان من الضروري ان يتعرض الشعر، بسبب المتغير الهائل الذي حصل خلال عقد كامل، الى صفقة قوية، ويتيح المجال للخطابات المفاهيمية والعقلية كي تحضر على الساحة، والرواية جزء من هذه الخطابات، ولكن في نهاية المطاف، من الضروري لثقافتنا، ان يكون هناك شعر قوي، شعر يعيش في جو من الغنى والتنوع الفني والابداعي.
* يرى بعض النقاد ان روايتك اقترحت العجائبية مدخلا اساسيا لفهم الواقع العراقي، لماذا اخترت هذا المدخل؟
- العجائبية هنا ليست تلويناً او تزويقاً، انما نافذة للاقتراب أكثر من الواقع العراقي. هذا الواقع الذي يحفل بالعجائبي الديني والميتافيزيقي والشعبي ويتعامل معها كمفردات واقعية معاشة بشكل يومي.
في الرواية نرى أن الخيال الشعبي والمشاعر التي تنتاب الناس بسبب الخوف والرهبة التي تساهم في تضخيم صورة فرانكشتاين البغدادي، وتحويله الى وحش خارق. نحن في واقع الحال نمارس هذا الأمر بشكل معتاد، نضخم ونبالغ دائماً ونتحرك بتحريض من مخاوفنا ورغباتنا ومشاعرنا السلبية.
الخيالي والعجائبي موجود معنا، ينام ويأكل ويشرب معنا، وليس امراً منفصلاً، بالإضافة الى ان الاحداث التي مررنا بها خلال العقود الماضية حفلت بالغرائب والعجائب من الاحداث والقصص.
في نهاية المطاف، العجائبية إن لم تكن محاولة للفهم والتفسير والقراءة العميقة للوقائع، فلن تكون ضرورية، وأعتقد أن من عناصر قوة "فرانكشتاين في بغداد" أنها وفرت هذا المدخل التفسيري للوقائع باعتماد العجائبي، حسب وصفك، وايضاً انجازها لهذا المزج بين المستويين الغرائبي والواقعي، وعدم هيمنة مستوى على آخر.
*بمن تأثرت من كتاب الرواية ؟
- أعجبت بأعمال كثيرة، من همنغوي وفوكنر الى غسان كنفاني، ماركيز وبول اوستر وكونديرا واسماعيل قادري وابراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف واسماء كثيرة أخرى. وعراقياً مهدي عيسى الصقر ومحمد خضير.
* استعرت نموذج حكائي "فرانكشتاين" من سردية اوروبية، السؤال هو: لماذا تجشمت عناء الاستعارة وانت في بلد يكاد ان يصنع في كل ثانية قصة غرائبية؟
- الاستعارة هنا تمثل بوابة ما بين موضوعة محلية وأفق تفسير وقراءة عالميين. "فرانكشتاين" هنا ليس مجرد قصة ألفتها ماري شيلي قبل مئتي عام، وانما هو مفردة من مفردات الثقافة الشعبية اليوم، بسبب السينما والميديا وأفلام الرسوم المتحركة وقصص الكوميكس. وهو هنا، داخل روايتي، يكتسب قراءة جديدة على أفق تلقي عالمي. فأنا اضيف مفهوماً جديداً على فرانكشتاين، بدلالاته العراقية المحلية، وأنا بذلك أخذ من الطاقة الدلالية لهذا الرمز الثقافي العالمي، وأضخ فيه شيئاً جديداً بالآن نفسه.
* لماذا اخترت "عتّاك" او بائع عاديات كما تسميه في احد مستويات الرواية ليكون بطلاً، بدلا عن طبيب مثلما فعلت ميري شيلي في روايتها الشهيرة "فرانكشتاين"؟
- في هذا نوع من الإقلاب البارودي الساخر، وهي تقنية متبعة في أدبيات ما بعد الحداثة، فـ"العتّاك" هنا ليس هو الطبيب فيكتور في رواية ميري شيلي، إنه صورة ساخرة عنه. كما أن موقع "العتّاك" من الأحداث المروية له دلالات أخرى متنوعة، فجامع المهملات، والذي يحاول ان يجعل منها شيئاً مفيداً، ينتقل الى مهمة اكثر خطورة، بجمع المهملات من الأشلاء البشرية لكي يصنع منها كائناً خطيراً. كما أنه نوع من الراصد للخراب العميق الذي يعتور المكان البغدادي تحت وطأة الحروب وأعمال العنف وتداعي البناء العام للدولة بسبب الصراعات والانقسامات الاجتماعية والسياسية.
*اعرف انك كاتب متعدد الاشتغالات، هل سيسهم فوزك بالجائزة في حسم خياراتك الكتابية باتجاه الرواية والقصة؟
- عملياً أنا أركز منذ خمسة عشر عاماً على مشغل الرواية، وانجزت خلال ذلك ثلاث روايات منشورة والعديد من المسودات لروايات غير مكتملة، وأرى أن كل الخبرات الكتابية والفنية الأخرى التي أتحصل عليها تثري تجربتي الرواية في نهاية المطاف، فالرواية جنس غير مستقل عن غيره، ولا يمكن لروائي ان يطوّر تجربته الروائية بالإنصات فقط للروايات والتفكير من خلال الأدوات الروائية فحسب.
في جانب آخر، ليس مهماً، برأيي، انجاز روايات عديدة، او محاولة اصدار رواية كل سنة مثلاً، بقدر أهمية أن يكون هناك مبرر قوي لكتابة رواية. وخارج ذلك فأن هاجس الكتابة يبقى حاضراً ودائماً عندي، ولا يمكنني التملص منه، حتى وان لم اكن مشغولاً بكتابة رواية.
* اكد بيان لجنة تحكيم الجائزة على "مستوى الابتكار في البناء السردي"، وان "شخصية (الشسمه)تختزل مستوى ونوع العنف الذي يعاني منه العراق" السؤال لو لم تركز الراوية على موضوع العنف في العراق هل كانت لتحظى بنفس التقييم؟
- هناك 156 رواية مشاركة في دورة البوكر هذا العام، وأكيد هناك من بينها روايات كثيرة تناولت موضوعة العنف والصراعات الأهلية في العالم العربي اليوم، ولكن المعيار الذي اعتمدته لجنة التحكيم، وكما في بياناتنا المتتالية، أكد على الجانب الفني، بكونه هو ما يحدد الرواية الفائزة عن غيرها.
في الحقيقة إن تأشير ورصد العنف في العراق وأشكاله المتعددة، هو امر مهم بحد ذاته، ولكنه أمر تشترك فيه الصحافة مع الكتابة الوثائقية والتاريخية، ولا يمكن ان يميز الرواية كجنس أدبي وفني خاص. كما أن النظرة العميقة ما وراء السطوح هي الأهم، تلك النظرة التي تتصل بمشاغل الانسان وهواجسه بعيداً عن دائرة الأحداث التي تتحرك على السطح. وقد تكون "فرانكشتاين في بغداد" حاولت انجاز هذا الغوص والنظرة العميقة، ضمن أدوات فنية مبتكرة، وهذا ما ميزها عن سواها من الروايات.