TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > صورة المثقف العربيّ في زمن داعش

صورة المثقف العربيّ في زمن داعش

نشر في: 22 أغسطس, 2014: 09:01 م

فلنمنح الحقّ لمن انتقدوا وطالبوا بإعادة تحديد معنى (المثقف) العربيّ، فلم يصغِ إليهم أحد إلا قليلاً، أو وقع التعالي على طموحهم كثيراً. السبب بسيط وجوهريّ: أن بعض ما يفتك ويستشري في جسد العالم العربي قادم، كذلك، من تغييب هذا المثقف لدوره، واشتغاله واعياً لصالح المال أو الأيديولوجيا.
بالطبع لا يخفى على عاقل أننا نتكلم عن (ظاهرة) أو (ظواهر) عريضة اسمها (المثقف العربي)، ولا نتحدث عن استثناءات محمودة هنا وهناك، لولاها لأصبنا بالانهيار العصبيّ. هذه الظاهرة العامة هي ما نتكلم عنه فقط. نحن لا نتكلم بالضرورة عن مثقف (مناضل). لا كافكا ولا أليوت ولا بريتون ولا حتى غرامشي (وكلها أمثلة لأنماط بشرية وفكرية)، هي الصورة الوحيدة للمثقف. ليس المثقف كائناً متعاليا على الشأن العام طالما أن الأمر يتعلق بعملية معقدة كالثقافة، يمكن أن تذهب من اليوميّ والأيروتيكيّ إلى الصوفيّ والوجوديّ وما بينهما.
مما يعقّد المسألة أن المثقف العربيّ قد قدّم نفسه، منذ ثلاثينات القرن الماضي، بصفته حكيماُ نبوياً أو متمرّداً صعلوكاً، أو ثائراً يسارياً، غير أن الزمن أثبتَ، بدرجات وظلال واستثناءات، أننا كنا أمام (صورة مزخرفة) أما بقوة الأكذوبة أو بسطوة الميديا أو عبر حماس زائد عن الحدّ للفعل الثقافيّ. كل يوم يُدرك المرء أن هذه الصورة تنقصها الرتوش، وعلى سبيل المثال فإن المثقف العربي مطروح بصفته (قارئاً) متابعاً. هذا ليس دقيقاً للأسف. خلال أربعين عاماً تطوَّرتْ، في العالم العربيّ، أجيالٌ وأسماء دون أن يتابعها ناقد (مثقف) جدير باسمه. الكل يشتغل وفق مبدأين: الإشاعة أو مَنْ يَعْرف في حلقته الضيقة بل ما كان يَعْرف قبل حين. وبالطبع لا تسهّْل الإقامة خارج الحدود الجغرافية للبلدان عملية المتابعة الجادة بل تُبْطلها. علينا أن لا ننسى أن نصف (الثقافة) العربية تقيم في المنافي والمهاجر، خاصة العراقية والسورية. كلما طالت عملية المنفى صار لزاماً دعوة (المثقفين) العرب في أوربا وأمريكا إلى مراجعة أنفسهم وقراءة ما لم يقرأوه طيلة زمن طويل.
لعل صورة المثقف العربيّ الظاهرة هي الوجه الآخر من صورة قارئه الظاهرة. لو كان الاستنتاج صحيحاً ومن غير تعسٌّف، فهو مؤشر غير مريح. بعض قرّاء المثقف العربيّ هو الوجه الآخر من المشكلة، فهو يطلب أحياناً كثيرة من مثقفه أن يكون (كاتباً عمومياً) يعمل وفق اشتراطاته وخياراته، أي القارئ. ويتمنى بل ويُعلن مراتٍ، أن يكون مثقّفه دون رغبات وهفوات وحياة شخصية وحتى بعض النزق الذي لا يخلو منه الكائن الإنسانيّ، ويحاسبه على كل أمر لا يعجبه. هذه العلاقة غير سوية في ثقافتنا العربية.
لن تكتمل الصورة دون أخذ البعد الجندريّ بنظر الاعتبار، إذ نحن نعني بالمثقف العربي، غالباً وبطريقة لاواعية، رجلاً، وليس امرأة. في النهضة العربية الحديثة كان مُحرَّماً تقريباً على هذا المثقف الرجل إظهار نوازعه ورغباته وشياطينه الصريحة الفاحشة (إلا عرضاً). ملاكه كان مُفضَّلاً. ديوان "أفاعي افردوس" يُفضّل في النهاية حكاية الفردوس وليس المغزى الفالوسيّ أو الصيدلانيّ للأفعى. أما المرأة العربية المثقفّة فلسوف تُظْهر في هذا السياق بلا شياطين، وتُطالب بأن تكون من جنس الملائكة فحسب. من جهة أخرى يتقدّم جُلّ المثقفين العرب في الوسائط الإعلامية بصفتهم "الرجل الصالح" المثاليّ ذو الرسالة النبيلة. لم تبرهن أحداث داعش على ذلك، وظهرت المرأة العربية ضحية كبيرة ومكافِحة كبيرة.
في زمن داعش، ظهرت صورة هذا المثقف العربيّ مهلهلة. في سوريا ساهم بعضهم في صناعة داعش والدفاع عنها قبل امتدادها إلى العراق، وعندما استشرت ظاهرتها الإجرامية لاذ بالصمت حتى دون اعتذار صغير، بعضهم دافع ببيانات طوال عن سياسة الأنظمة التي صنعت داعش وموّلتها، بعضهم يُمجمج دون تصريح بنزعات طائفية مقيتة، الكثير منهم لا يرى إلا الحقائق التي يريد رؤيتها بعين واحدة على امتداد المنطقة العربية، فيما يتعلق بالانتخابات والانقلابات والتدخلات الخارجية وتأثيرات استخدام المال والميديا وغير ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram