لاحت لي تماثيل الحديقة من بعيد ، وكأنها تشير لي بالدخول لمحاورتها وهي تقف تحت شمس سبتمبر الدافئة التي تنعكس على ملامحها لتحيلها الى كائنات حية طافحة بالحياة ، تماثيل في غاية الروعة والأهمية سواء من ناحية جمالها أو من ناحية الأسماء الكبيرة التي قامت بنحتها . انتظرت قليلاً قبل أن أدخل وكأني كنت أفكر بما قاله ديلاكروا ( تجلَّد إزاء انطباعك الأول ) ثم عدت بضع خطوات الى الخلف لأسحب أحد كراسي المقهى الصيفي المطل على الحديقة وأنا أراقب المشهد من بعيد ، ارتشفت قهوتي ببطء ثم سحبت خطواتي نحو التماثيل التي بدت تقترب شيئاً فشيئاً .
هكذا كانت بداية دخولي الى حديقة تماثيل متحف كرولر مولر الواسعة وسط هولندا ، وقد وزعت فيها عشرات التماثيل والأعمال الفنية التي تبدو وكأنها قد زرعت بجانب أشجار السرو المهيبة . سرت وأنا أحمل خارطة صغيرة للمكان حيث كانت البداية مع عمل النحات هنري مور الذي أعطاه عنوان ( رأس حيوان ) هذا العمل الذي نفذه مور بنوع من التعبيرية المؤثرة والمشحونة بنوع من الدراما . سرتُ بضع خطوات حتى بانت (المرأة المستلقية ) للنحات مايلول ، هذا الفنان الذي قام بعمل نسختين من هذا التمثال البرونزي ، واحدة منها في الحديقة الخارجية المطلة على متحف اللوفر ، والنسخة الثانية هي التي أمامي هنا ، عمل جميل في غاية الرومانسية وكأن هذه المرأة تحاكي غنج نساء رينوار ونعومة إيماءاتهن وقت الاستحمام . مشيت قليلاً لأصل الى عمل النحات التكعيبي ليبشتز الذي يقابله على الجانب الأخر عمل كبير للنحات كينيث أرميتاج ، وهكذا في كل ممر أو زاوية من الحديقة يظهر عمل لفنان مهم ومؤثر . مضيت الى العمق باتجاه الجانب الأيمن بحثاً عن البناء الذي صممه الفنان الفرنسي جان دوبوفيه الى أن وجدته مسترخياً وسط العشب تحيط به الأشجار العالية ويكسوه اللون الأبيض مع خطوط سود عريضة لونت بها الحافات والزوايا ، انتبهت الى سلّم صغير يؤدي الى السطح الذي بدا غير مستوٍ وقد جلس هناك جمع من الجمهور يشاهدون عرضاً مسرحياً طليعياً يقدمه شاب وشابة في مقتبل العمر يحيطان أجزاء من جسميهما بالبالونات ويقومان بإيماءات تشبه حركات الروبوت ، وهذا هو واحد من المشاريع التي تبناها المتحف كي يفسح الفرصة للمواهب الشابة وطلاب الأكاديميات . وأنا أهم بالنزول من بيت دوبوفيه لمحت من بعيد تجمُّعا آخر من الشباب قرب تمثال النحاتة باربارا هبوورث ، فساقني الفضول اليهم لأطلع على تجربتهم التي تعتمد على بعض الآلات المبرمجة والمربوطة مع كمبيوتر، يضع الطلبة كمية من الألوان في هذه الآلات ويمررونها على ورق مفروش على الأرض فتنتج أشكالاً وخطوطاً معينة ، وقد ذكرتني هذه العملية بالكتابة الميكانيكية التي ابتكرها الدادائيون . بعد كل ما رأيته هنا وهناك بقيت الفعالية الأخيرة التي يجب عليّ زيارتها ، أنها مشروع جديد ورائع قام به مجموعة من الشباب في الجهة اليسرى من الحديقة ، كان هذا المشروع بعنوان ( كم قطعة من الملابس نحتاج طوال حياتنا ؟ ) . نُفِّذ العمل فوق ساحة كبيرة ومرتفعة بعض الشيء وقد علقت آلاف من قطع الملابس على حبال امتدت بشكل حلزوني ، وبهذا شكلت الملابس ما يشبه جدران متاهة حلزونية ، وقد اختيرت كل قطع الملابس باللون الأحمر وتدرجاته مع القليل من درجات البنفسجي ، لم أشاهد في كل حياتي مثل هذا العدد من قطع الملابس في مكان واحد ، هذه القطع التي تنوعت وشملت ما يستخدمه الأطفال حديثي الولادة حتى يصل الى الشيوخ كبار السن ، أدخل في عمق متاهة الملابس وأدور في درجات الأحمر لأتطلع الى هذا البناء الهارموني بين الأحمر والبنفسجي . أسير الى الخارج ثم ألتفت قليلاً الى جبل الملابس المعلقة خلفي وأنا أفكر بأن الفن شيء رائع سواء كان لوحة أو تمثال أو حتى قطعة ملابس حمراء.
حديقة التماثيل
[post-views]
نشر في: 22 أغسطس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...