TOP

جريدة المدى > ملحق ذاكرة عراقية > عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته

عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته

نشر في: 6 ديسمبر, 2009: 05:13 م

شيخ غاضب يأتي الى القصرالجمهوري كنا في القصر الجمهوري قد اُنذرنا في احد ايام منتصف شهر كانون الاول (ديسمبر) 1964 عن احتمال حدوث حركة انقلابية، اذ يتطلب الامر اتخاذ الحيطة والحذر من لدن الجميع.. وكان من ضمن الاجراءات التي نتخذها في مثل هذه المواقف تحديد دخول الاشخاص غير المخولين الى القصر.
كنت في غرفة التشريفات قبل المغيب عندما أخبرني آمر حرس باب الدخول الى القصر هاتفياً بأن شخصاً كبيراً في السن اسمه الشيخ محمد رضا الشبيبي (1) يروم الدخول الى القصر بسيارته.. ولما كان هذا الشيخ العلامة قد قرأنا عنه في مراحل دراستنا، وهو علم من أعلام عراقنا، أوعزت بدخوله فوراً قبل ان اخرج الى باب التشريفات لأستقبله. توقفت سيارته الفاخرة، وترجل من الباب الايمن الخلفي، فيما بقي سائقه في مقعده، قبل ان يتوجه الي رحبة وقوف سيارات الزائرين، رجل مهيب، معتدل القامة والبنية، ذو لحية خفيفة، يلبس قباء داكن اللون وعباءة سوداء، وعلي رأسه عمامة بيضاء، والوقار واضح علي وجهه المائل الي السمرة، يبلغ من العمر نحو سبعين سنة او يزيد، رحبت بمقدمه بحرارة، ولكن لم يكترث بي كثيراً، فقد كان غاضباً الي حد كانت معه يده اليمنى ترتجف بشكل ملحوظ، حتي صاح بصوت عال غير معتاد في القصر الجمهوري: أين الحجي..؟ استغربت من تصرف الشيخ العلامة، فقد كان الذين يحضرون الي غرفة التشريفات ومعظمهم من كبار مسؤولي الدولة يجاملوننا كثيراً الى درجة نخجل من أنفسنا في بعض المرات.. ولما سكتُّ وبانت الحيرة علي محيّاي، صاح للمرة الثانية: أين الحجي..؟ توقعت ان مشكلة كبيرة قد حدثت له. رجوت منه الدخول الى غرفة التشريفات، فتوجه اليها وهو يتمتم بعبارات لم أتبين مقصده منها. الرئيس يستقبل الشيخ الشبيبي فوجئت بـالرئيس عبد السلام عارف يدخل الي غرفة التشريفات مسرعاً، وهو يقول: ـ اهلآً.. اهلآً بشيخنا العزيز. ـ لا هله ولا مرحبا.. نطقها الشيخ وهو لا يزال واقفاً. ـ خيراً ان شاء الله؟.. سأله الرئيس مستفهما.. ـ وهل تتوقع خيراً مع مثل هذه التصرفات يا حجي؟ رد الشيخ الشبيبي. ـ خيراً ان شاء الله.. قالها السيد الرئيس مرة اخرى واردف متسائلا: ماذا حدث؟ ورد الشيخ: حجي.. هذه هي المرة الثانية التي احضر فيها الى قصركم العامر وللسبب نفسه، فقبل سنة ونصف تقريباً حضرت لأشكو لك تصرف اشخاص ارادوا تفتيش سيارتي في شارع عام، وكان الوضع في العراق غير ما هو عليه الان.. واليوم يجابهني موقف مشابه تماماً، فقد اوقفني بعض الشباب، مدعين انهم من افراد الامن والاستخبارات، ولم يخجلوا حين طلبوا بكل وقاحة تفتيش سيارتي، على الرغم من كون عائلتي وبناتي معي، واني قد بلغت من العمر ما يرون.. ان اقل وصف لمثل هذه الوقاحة يمكن ان نسميه سقوطاً اخلاقيا.. فأين الشرف واين القيم؟ رد عليه الرئيس: صحيح ذلك، وانتم الصادقون، وانتم علي حق، فليس من حقهم ذلك يا شيخنا. وهنا هدأ الشيخ الشبيبي قليلا وجلس على مقعد، وراح يتكلم بينما ظل الرئيس عبد السلام واقفاً: أود ان اُوضح لك يا حجي: إنك تدّعي تصحيح الاوضاع السياسية في البلد، فما الفرق الآن عن شرطة نوري السعيد وسعيد القزاز وعن الحرس القومي البعثي.. هل هناك تغيير، في الوجوه وفي صفات الاشخاص القائمين علي أمور الدولة؟ ـ لا يا شيخنا.. أرجوك لا تتعدى على، قالها عارف! واستطرد الشيخ الشبيبي يقول: بالله عليك.. هل تنبيهك يا حجي، نحو سلبيات أو أخطاء تقترف، هو اعتداء عليك!؟.. أنت المسؤول عن هذه الامور، ولا بد من وضع حدّ لها.. مواطن يسير بالشارع في أمان الله، وجماعة يشكّون بأمره لمجرد الشك، فيوقفونه ليفتشوه دون موجب او سبب.. والله إنه الكفر بعينه. حسنا.. إحسبها عليّ يا شيخنا.. فأنت استاذنا، وقبل ان يكمل عبد السلام كلامه، قاطعه الشيخ الشبيبي قائلا: طبعاً احسبها عليك.. فأنت ان لم تكن المسؤول الاخير، فإنك المسؤول الأول.. ألم يقل الخليفة عمر: إن عثرت بقرة في العراق بصخرة فإنه مُحاسب على ذلك، وقد قالها عن العراق وهو في دار الخلافة بالمدينة المنورة، بينما تقع مثل هذه التصرفات في شوارع بغداد وانت جالس في حكم بغداد.. فكيف لا أحسبها عليك؟ الرئيس عبد السلام عارف يصلي وراء الشبيبي صحيح جداً ما تفضلتم به، قال الرئيس عبد السلام مضيفا: هدئ من روعك، وصلّ علي النبي وآله.. فلنقم الى الصلاة التي قال عنها الرسول )صلى الله عليه وسلم ( أرحنا بها يا بلال.. فقد قرب حلول الظلام. ـ انا لا أصلي معك.. رد الشيخ الشبيبي على الرئيس عبد السلام! ولكن عبد السلام خاطب الشيخ قائلا: قم يا شيخ واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فمثل هذا (الزعل) لا يمكن أن يصدر من علامة وشيخ وأستاذ، ومن أحفاد سيدنا علي كرم الله وجهه.. فإننا نعتبرك معلمنا واستاذنا ومربينا، قم يا شيخ لتكن أنت الإمام وانا تابعك. ردد الشيخ الشبيبي عبارة أستغفر الله العظيم مرات عدة، قبل ان يسبق الرئيس عبد السلام في الخروج من غرفة التشريفات، بينما تابعتهما بنظري، وهما يسيران نحو الجناح الخاص في القصر، وانا مستغرب مما حدث خلال الدقائق الماضية امام عيني، وما سمعته اذناي، فعبد السلام الذي طرقت أسماعنا شراسته ومزاجه الحاد، وجدته أمامي ودوداً وديعاً مع الشيخ العلامة، الذي كان رئيساً للمجمع العلمي العراق

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

هل كانت ثورة 14 تموز في العراق حتمية؟

هل كانت ثورة 14 تموز في العراق حتمية؟

د. عبدالخالق حسين لو لم يتم اغتيال ثورة 14 تموز في الانقلاب الدموي يوم 8 شباط 1963، ولو سمح لها بمواصلة مسيرتها في تنفيذ برنامجها الإصلاحي في التنمية البشرية والاقتصادية، والسياسية والثقافية والعدالة الاجتماعية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram