حصر أكثر الباحثين والمهتمين بالثقافة الشعبية معنى "الحسچة" في أنها نوع من البلاغة اللغوية تعتمد التورية في الكلام. كتبت في أكثر من عمود معترضا على اختصار معنى "الحسچة" في التورية فقط. واليوم أضيف بأن صاحب "الحسچة" لا يمكن ان يكون "حسّاچا" بارعا إلا اذا تميز بطريقة تفكير ثاقبة وحس إنساني سليم. وصاحبها المتمكن منها يُعرف عند الملمات والشدائد وعندما تلوح بوادر النكبات والكوارث.
في شباط من العام 1963 سأل صحفي فرنسي عبد الكريم قاسم عن سبب عدم احتلاله للكويت عسكريا، فأجاب "أنا لست فاشيا". "حسچة" قاسم هنا ليست فقط في انتقاء كلماته، بل وبرجاحة عقله ودقة حساباته. وها انتم ترون الذي حل بالعراق والعراقيين حين اقدم من بعده أحمق على استخدام القوة في احتلال الكويت. وبطريقكم احسبوا المصائب والنكبات التي تحل بالعراق اليوم حيث لا صاحب "حسچة" يدير شؤونه.
كنت البارحة في زيارة لشيخ عشيرة من الفرات الأوسط جاء للقاهرة من أجل العلاج. برأيه، ان السبب في الخراب شبه الشامل الذي يحدث بالعراق اليوم، هو غياب العقل عند قادته. قالها بلهجته الفراتية: ولا بيهم واحد تكدر تنتجي عليه .. شايف زلم ما بيهم واحد "حسچة"." زدني يا شيخ. رد علي: وعيونك لو أن فيهم صاحب عقل لحوّل نقمة "داعش" إلى نعمة. شلون؟ يا طويل البكه والسلامة، في سنة من السنين الغابرة صارت القبائل العربية تتقاتل مع بعضها وصارت ارض العرب ساحة مفتوحة للنهب والسلب وإراقة الدماء. فكر إمبراطور أجنبي بغزوهم لانهم يتقاتلون في ما بينهم وانها فرصة لاحتلال أرضهم. التقى بمستشاريه فأيدوه إلا واحدا منهم وكان صاحب "حسچة". قال للإمبراطور: لو تسمح جلالتك ان يُحضر الحراس كلبين في الساحة. دخل الكلبان وصار احدهما ينهش الآخر. في هذه الأثناء طلب المستشار من الحراس ان يدخلوا عليهما كلبا غريبا. حال دخول الكلب الغريب نسي الكلبان صراعهما وهجما معاً عليه. فهم الإمبراطور العبرة وألغى فكرة الهجوم على العرب.
خرجت من عند الشيخ الحكيم وأنا أتمعن "بحسچته" وببالي كيف تحرر سد الموصل من الدواعش. تساءلت: وهل كان سيتحرر من غير التحام الجيش العراقي بقلب واحد مع جند البيشمركة؟ إنها نعمة في انتظار صاحب "حسچة" ناصع العقل والضمير ليوحد قلوب العراقيين جميعا بوجه كلاب داعش.