TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > وهم أننا نعيش زمناً جديداً

وهم أننا نعيش زمناً جديداً

نشر في: 26 أغسطس, 2014: 09:01 م

الكائن الإنساني هو قبل كل شيء معمل لتصنيع الأوهام، وكل ما له علاقة بها من سراب. وليس من المبالغة القول بأن تاريخ الإنسانية يُمكن أن يكون تاريخ الهلوسات المُحتملة من قبل الإنسان. بالتوازي من ذلك، لا نعرف بالفعل، فيما إذا كانت الحيوانات أيضاً تتوق ـ مثلها مثل الإنسان ـ إلى ما يخدرها، ولكي لا نشغل أنفسنا بالبحث على إجابة لهذا السؤال، سنفترض ونقول "نعم"، لكننا سنظل جاهلين للأسباب التي تجعل الحيوانات تلجأ إلى هذه الوسيلة، وإذا كانت تفعل ذلك من أجل الهروب من الواقع، كما نفعل نحن، أو من أجل التلاشي عن نفسها بطريقة ما.
كل تلك الأسئلة خطرت بذهني منذ 10 يونيو/حزيران، تاريخ دخول إسلاميّي الموظة الجديدة، أعني إسلاميّي داعش الى الموصل ومدن أخرى في شمال العراق، عبثاً حاولت طرد الفكرة من مخي. كلا، فعلى طول الأسابيع التي لحقت بذلك التاريخ وحتى هذه الأيام، ولم تتركنا الكثير من الإعلانات، والكثير من الخطابات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، التي احتفت أمامنا بافتتاح مرحلة جديدة في الشرق الأوسط والعراق. بعضهم يقول إنها ثورة، والآخرون يقولون أننا مقبيلون على عهد ازدهار جديد! ويكفي فقط الخروج للشارع لكي يدرك المرء التأثيرات الزائدة لمخدرات الكلام. حتى علماء الاجتماع الجهلة واظبوا بحماسة على كتابة مقالات رصينة تتحدث عن مستقبل المنطقة بعد دخول داعش على الخط، كما لو كان ممكناً تسمية كل هذه الزبالة التي نعيشها يومياً بالمستقبل. لا أدري فيما إذا كان المحللون وعلماء الاجتماع قد وقعوا هم الآخرون في الفخ، الذي مُهد الطريق له قبل شهور، بل وقبل سنوات عديدة، رجال السياسة، بكل ما يملكونه من مكر وخداع، راحوا يبثونه على طول ساعات اليوم في كل النشرات الإخبارية، المرئية منها والسماعية!
لكن، وبعيداً عن تلك الكرنفالية التي تفترض الاحتفاء بعهد جديد، والتي لا تخلو في القسم الكبير منها تأثيرات المخدرات، وما تحويه من هذيان افتتاح مرحلة اختفت أو همدت بشكل يدعو للتفكير. وعلى الضد من كل ذلك، لا أعتقد أننا نجافي الحقيقة، إذا ثبتنا الحقيقة التي آمل ألا تُرعب أحداً، بأننا صحيح دخلنا القرن الحادي والعشرين، لكن ما تفعله داعش وأخواتها من الحركات يقول، إننا ما زلنا في القرن العشرين، بل وأكثر من ذلك، أننا ما زلنا في القرن التاسع عشر. وإذا سمحتم لي حضرتكم أن أكون أكثر شفافية، فسأقول بأنني أجامل بقولي السابق، لأننا في الحقيقة، حتى لم نغادر القرون الوسطى تماماً. وإلا افتحوا عيونكم، إن لم يكن الأمر غير ذلك، وانظروا حولكم. هل رأيتم صورة حشد جثث الشباب والشابات الذين ماتوا ويموتون يومياً ضحايا للثورات؟ هل رأيتم صور الرؤساء العرب الجدد وهم يسيرون على خطا أسلافهم في شكواهم جميعهم من المؤامرات التي تحاك ضدهم في الكواليس؟ هل تمعنتم بوجه الرئيس الأميركي الذي أريد له أن يكون الاستثناء، حتى حصل على جائزة نوبل للسلام، أوباما وكيف ينظر بنظرة "بريئة" باتجاه عالم لا يعرف عنه شيئاً ولو على الأقل عن طريق الأدلة السياحية؟!
وأكثر من ذلك، هل سمعتم الحماقات التي احتوت عليها تحليلات كبار مثقفينا عن الخطر الذي ما زال يحدق بالأمة "المجيدة" وكيف أن علينا الحتراز من الطابور الخامس ومن مكر الأقليات؟ بل أكثر من ذلك، هل تقرأون على الصفحات الثقافية لصحفنا المكتوبة بالعربية النقاش الفارغ الدائر في الدفاع عن هذا الكتاب أو ذاك؟ بل هل تسمعون الأغاني التي هي ذاتها، لا يهم بأية لهجة كانت، تتحدث عن الحبيب المغرور الذي لا يلين مهما تلاشت أو قدمت القرون، الحبيب الديكتاتور الذي يظل على العرش، حتى وإن سقطت هذه الحكومة أو تلك؟ هل بإمكان أحد أن يتصور أنه القرن الحادي والعشرون؟ بل هل تقرأون قصائد شعرائنا "الفطاحل" التي ما زالت تتحدث فيها الأنا التي ستكتسح كل شيء، و ستخرج لنا من "المكان"، لتمنحننا حياة جديدة، تاريخاً جديداً، مخدراً جدياً، وهم أو مخدر عهد جديد؟ كلا. أن ما حدث، في النهاية، أننا دخلنا بعنوة مرحلة جديدة مع داعش وأخواتها، وأن ما نعيشه هو تجربة معادة، مجرد رقم سيُضاف لتجاربنا الخاوية من أزمنة مضت وأخرى قادمة على الطريق. كم كان عددها؟ لا أحد يعرف، لأننا نودع عهداً ونستقبل عهداً جديداً، ونحن تحت مخدر وهم أننا نعيش زمناً جديداً!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram