في فيلمه الأخير "همس المدن" يخوض المخرج قاسم عبد، مغامرة حقيقية لكنها محسوبة بدقة .. حيث ينطوي الوثائقي الأخير له، على اكثر من تحدٍ .. يتصدى لها المخرج برهان النجاح و إرضاء المتلقي..
"همس المدن" هو مغامرة، من حيث تفرد موضوعه وأسلوب معالجته، مغامرة في كونه يراهن على فطنة المتلقي، وهو رهان عادة لا يستقيم مع طبيعة الفيلم الوثائقي خلافاً للأنواع الفيلمية الأخرى..
وأخيراً هو مغامرة بالقدر الذي يقصي فيه المخرج من فيلمه الحوار او التعليق، لتتحمل العبء الأكبر عناصر اللغة السينمائية الأخرى، في توصيل الأفكار و ولوج الوضع الإنساني بمستوياته المختلفة العاطفية، الروحية، الفكرية..
بعد عدد من الوثائقيات التي صنعها هذا المخرج المثابر (وسط حقول الذرة الغربية) ، (ناجي العلي) ، (حاجر سروا) و (حياة ما بعد السقوط) يأتي فيلمه الوثائقي (همس المدن) الذي يتناول بأجزائه الثلاثة، ثلاثة مدن بقصص مختلفة، لكنها تلتقي حسياً وبصرياً .. مدن من الشرق الأوسط رصدتها كاميرا المخرج خلال اكثر من عشر سنوات .. أربيل، رام الله، بغداد.
وبالطبع لا يبرر الفيلم ومخرجه هذا الاختيار، فهو يكمن – أي المبرر – بالضبط بما توثقه الكاميرا، وهو كما أسلفت رهان المخرج على فطنة المتلقي، المدينة الأولى أربيل .. والكاميرا تراقب من علوٍ – هكذا هي زاويتها في المدن الثلاثة – ساحة مدرسة والشارع المجاور لها والواقع تحت الفندق .. حيث تصطحب الحياة .. طلاب المدرسة بزيهم المدرسي واسترخاء الفسح، ثم تجمعهم حول عربات الباعة المتجولين .. وحركة السوق .. والاحتماء من المطر الساقط بكثافة ,, حيوات تتحرك بعفوية، تدفعها الرغبة في المرح، او الاختباء من المطر، أفعال لا إرادية ترصدها الكاميرا ويتماهى معها المتلقي حد المشاركة ..
في مدينة رام الله تقاطع طريق ترصده الكاميرا من مكان مرتفع، باعة الكعك يدفعون عرباتهم وهم يعلنون عن بضاعتهم .. وطلبة المدارس بانتظار الباص وايضاً صباغو أعمدة الكهرباء وباعة الصحف .. هذا السكون النسبي للحياة تقطعه أصوات من مكبرات الصوت بوجود عدد من الجنود وإعلان حالة منع التجوال .. ثمة شاب مكبل اليدين معصوب العينين يدفع باتجاه سيارة عسكرية .. انها الحياة في رام الله .. حيث أجواء الاحتلال من جهة، والتشبث بالأمل من الجهة الأخرى.
المدينة الثالثة بغداد .. ومثل شقيقتها رام الله .. حياة ضاجة، وحيوات تتصاع وتتمرد على ظرفها .. الكاميرا ترصد إيقاع الحياة عند مفترق طريق مكتظ بالناس والسيارات وقبل كل شيء بالحياة.
الكاميرا ((تراقب)) حركة الشارع: صافرات سيارات الشرطة تفسح الطريق لأرتال السيارات الرسمية، بينما يطلق الرصاص في الهواء للغرض نفسه او لإثارة الانتباه..
في الكادر نفسه، شحاذون وباعة متجولون .. وانفجارات تدوي من مكان ليس ببعيد بينما ينشغل عمال بناء في بناء (نافورة ماء) وسط الساحة .. وعلى مسافة ليست بعيدة فلاح يغرس عدداً من الشتلات .. افعال وحيوات تخط هذه الساحة ملامح بلد يعاني مخاضاً صعباً.
هناك قصدية واضحة ليس باختيار المدن، ولكن لسبب الاختيار ايضاً .. المخرج في اربيل حيث كان مدعواً لعمل ورشة لتدريس الفيلم الوثائقي، وفي رام الله لتدريس أساليب عمل الوثائقي في جامعة بيرزيت .. اما موقع الكاميرا في بغداد ففي شرفة كلية السينما المستقلة التي اسسها مع زميلة له.. في المدن الثلاث .. السبب اذن كان السينما..
اما القصدية في اختيار المدن .. فسنكتشفه في صيد الكاميرا الثمين في اربيل حركة باتجاه افق ابعد .. بينما في رام الله وبغداد فان صيد الكاميرا يشي بما تعيشه هذه المدن من واقع يكاد يكون متماثلاً .. في رام الله الكاميرا تقتنص الهدوء الحذر ثم أصداء الانتفاضة في سيارات الجيش ومنع التجول واقتياد شاب فلسطيني الى المجهول..
في بغداد يتمركز شكل الفوضى في مفترق الطريق هذا الذي يصعب فيه على شرطي المرور تنظيم حركته فيلجأ الى حركات بهلوانية مثيرة للضحك .. فيما على جانب منه تغرس شجرة وينبثق ماء .. دلالة ليس من الصعب قراءتها ..
قاسم عبد اختار ان يعيد قراءة ما تكتبه كاميرته، بالطريقة التي يصنع منها فيلماً .. المدهش فيه ذلك الإيقاع السلس الذي يتفاعل مع الجمهور.
همس المدن
[post-views]
نشر في: 27 أغسطس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...