الدولة تصنع رجالاتها، وفقاً لمقاساتها على الأرجح، أو تشذ عنها، حين لا تكون قد ترسخت " مؤسساتياً " على قواعد دستورية ضامنة، تُحترم فيها إرادة المواطنة، وتستعصي فيها "أجهزة القوة والقمع " والسلطة القضائية، على إرادة الحاكم، بتحويلها الى أداة طيّعة تحت
وفي تاريخ الأمم والشعوب، كياناتٌ ، تتشبه بالدولة وما هي بدولة، وهي أقرب ما تكون الى خليطٍ متنافرٍ من كيانات تتشكل على هامش الأشكال البدائية للدولة. تتشوّف لكي تحقق قدراً من مقومات الدولة، تمكِّنُها من الاستمرارية في الحفاظ على خطوط التماس بين تكويناتها في حالة من السكون، والتجاذب الإيجابي.
ان الدولة في سيرورتها، قطعت المسافة الفاصلة بين الحقوق والحريات والقانون، وأشكال الفوضى والاستلاب. وتمكنت بعد أن استقرت على المفهوم المعاصر لها، أن تحمي الفرد من سطوة الجماعة وسلطتها المطلقة، وتحديد حرية الفرد في اطار مراعاة الانسجام داخل الجماعة، ووفقاً للعقد الاجتماعي والسياسي الذي ينظم العلاقات بينهما.
والعراق الذي تأسس في بداية عشرينات القرن الماضي، كدولة في رحم نظامٍ شبه إقطاعي، شبه استعماري، ملغوم بتناقضات مكوناته، تعرض لانقطاع شروط تطور دولته موضوعياً، منذ التحول من الملكية الى الجمهورية، في محاولة قصيرة لإعادة بنائه، ديمقراطياً، ليصبح حاملاً لإرادة الأكثرية السكانية، تراتبياً، وليس مكوناتياً، على أن يعبر عن المصالح الطبقية للفلاحين والعمال والفئات الطبقية الوسطى غير المتبلورة، المتشوهة، بتأثير النزعات الكومبرادورية الفاعلة في الحياة الاقتصادية والسياسية للعراق الملكي. ومنذ انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣، تمرّغت الدولة في أوحال التجاذبات الانقلابية العسكرية، لتسقط في أوجار البعث، وتنتهي بذلك عملية تأهيل الدولة وتمكينها من استكمال بنيتها، وتذهب بعيداً خارج سياقات الدولة بالمفهوم المعاصر، حتى وإن اتخذت لها مفهوم الدولة المستبدة. ويكفي للاستدلال على غربتها عن مفهوم الدولة، سقوطها، في ٩ نيسان ٢٠٠٣، بالتلازم مع انهيار نظام البعث، بعد أن صارت نسيجاً مترابطاً، لنظام عائلي، عشائري، فردي، في كلٍ واحدٍ، يتعذر تصفية احدها دون انهيار البنيان كله!
وقد يبدو غير مفهومٍ أو بدرجة ناقصة من الوضوح، أن الدولة العراقية الجنينية، التي تأسست في العشرينات، بفعلٍ خارجي، وتدبيرٍ من المملكة البريطانية، كصاحبة الولاية على العراق، وفقاً للمحاصصة الأممية، أنها جاءت برجالاتها الذين تم تكوينهم في الدولة العثمانية. ويمكن القول أن اغلب الكوادر القيادية في الدولة العراقية " الملكية " التي دامت أقل من أربعة عقود، لم تكن نتاج النظام الملكي، كما أن ملوكها وأمراءها لم يكونوا كذلك، بل تم استيرادهم من خارج الدولة. ويشمل ذلك ايضاً العديد من أقطاب ورجالات الأحزاب الوطنية المعارضة، الذين اصبحوا أقطاباً في النظام الجمهوري، بعد أن تشبعوا بأفكار ومفاهيم وأساليب العمل في المعارضة السياسية.
أن عسكرة الدولة والمجتمع، كانت السمة الغالبة التي سادت طوال عقود أعقبت إسقاط النظام الملكي. وأصبحت الدولة أسيرة القادة او أشباه القادة العسكريين الذين توارثوا حكم البلاد، وتسلطوا على مقاديرها، كما أن ما هيمن على بُنى الدولة ومفاهيمها، والتقاليد التي تحكمت في ثقافة النخب الاجتماعية، لم يكن خارج تلك المنظومة، التي كرستها سلطة البعث، سواء عبر التشكيلات شبه العسكرية التي فرضتها بين الشباب والطلاب والأوساط الاجتماعية، أو منظومة المفاهيم والقيم والأفكار الرثة التي أشاعتها، من خلال حملات التعريب والتبعيث، ومحاولات تصفية التنوع السياسي والثقافي في المجتمع.
المفارقة الدراماتيكية، تجد تعبيرها في ما تلا إسقاط نظام البعث الاستبدادي. فعملية الإسقاط تمت بالحرب من الخارج. وآليات التغيير جاءت بإرادة خارجية وفي ظل الاحتلال وبقوانينه وقياداته العسكرية والمدنية، وحتى " بخبرات عراقية " من الخارج لا خبرة لها في عمل الدولة. وإعادة بناء الدولة، والمؤسسات الأمنية، وقوات الجيش والشرطة والهياكل الاخرى المتممة، قادتها ووضعت أنظمتها، ووظفت قياداتها، بإشراف مباشر وموافقة الحاكم المدني للمحتل بول بريمر وطاقمه، ومن استعان بهم من العراقيين، كانوا من بين نخبة العاملين في القصر الجمهوري والعناصر النافذة في البعث والقوات العسكرية والأمنية وجهاز " الدولة " المتصاهرة مع العائلة والعشيرة والحزب، المذابة في كيان واحد هشٍ مشوه!
ولكي تكتمل اللوحة التي تغطي على المشهد العراقي منذ الانتقال الى الجمهورية الثالثة، جمهورية ما بعد بريمر، فان اعلى سلطة للعراق الجديد المتمثل في " مجلس الحكم " والنظام السياسي الذي تم وضع أسسه ليشكل معنى العراق الجديد، اختيرت وثبتت بقرارٍ فردي، دون تشاور من السيد بول بريمر!
بعد هذا امكن انتقال الحكم لقادة المعارضة التي أُقسرت على أن تتحرك وتنمو وتتطور في خارج البلاد، وعلى تخومها في بلدان الجوار، وتتمكن من ممارسة النشاط المعارض، بأشكاله وأساليبه وصيغه التي ظلت بدائية، بمفهوم الدولة وآلياتها المتطورة، بغض النظر عن طبيعة النظام السائد. لكنها تحولت من المعارضة ومفاهيمها الى دست الحكم، حاملة معها ذات المفاهيم والقيم والأساليب، ومعتمدة على أدواتها التي اعتمدتها في المعارضة، وموهت عليها بدمجها في أجهزة الدولة بدءاً من اخطرها، لتتجرد الدولة، وهي في أحط حالاتها الجنينية، من امكانية إعادة بنائها على أسس متينة. ولم يكتف بريمر، بتوريث المنظومة الحاكمة، حزمة من القوانين والأوامر، والتشريعات، والمستشارين الذين اعتمدوا في إعادة بناء الوزارات والأجهزة التابعة لها، وهم من بقايا البعث ومؤسسته العسكرية والأمنية، بل فرش لها بالممارسة العملية بساطاً يتهادى فوقه غيلان الفساد الإداري والمالي.
لكن ما هو اخطر من ذلك كله، هو إعادة توزيع بقايا النظام السابق وفقاً للهوية الطائفية والعرقية بين الأحزاب والتكوينات السياسية للعراق الجديد، ليصبحوا، خارج الأضواء الكاشفة، والمساءلة، أعمدة نظام المحاصصة الطائفية، ودوائرها المهيمنة، على حساب الطوائف نفسها، وخلافاً لإرادتها الكامنة.
واذا شئنا ان نتجنب الخوض في كل ما جرى، منذ أول ولادة " وطنية للعراق الجديد " ، وتفاصيل التدهور والإعاقة لتشكيل بنيان ومفهومٍ لدولة وطنية عراقية، تُنبت وتُكّون رجالاتها من رحم مشيئتها وسيرورتها، فهل لنا أن نأمل بإمكانية أن نبدأ مرحلة تحول نوعي، يصبح فيه للعراق: رجال دولة..؟!
وقبل ذلك، يحق لنا ان نستفهم بمسؤولية، أيكون لنا أن نتعرف على تلك الملامح التي شكلت مسيرة ما سمي بالعراق الجديد، ونتطلع لإرادة صنّاع القرار في ان يتدبروا ما هو أساس وصَعبٌ ومعقدٌ في منظومة تشكيل الدولة القادرة على ان تكون حاملاً لما نريد من عراقٍ جديد..؟
جميع التعليقات 2
مظفر
هناك اسئلة اثارتها قراءة المقال ارجو ان اجد لها اجابات وهي : 1- قبل سقوط الدولة العثمانية والاحتلال البريطاني للعراق(ان كان هذا اسمه)ماهو الكيان الذي كان عليه هل له معالم وحدود معروفةام غير ذلك ؟ 2-هل ان ماحدث في صبيحة 14تموز 1958 يعتبر اجهاض لعملية تكوين
محمد سعيد العضب
تساؤلات حقه يطرحها الكاتب , وترتبط الي حد بعيد بتاريخ افنقار العراق وصيرويه العمل السياسي فيه, الي ثقافه سياسيه, حيث تم ادلجه كل شئ ,كما اعتبرت الاديولوجيه الموهومه ,سواء الماركسيه , الشيوعيه ,القوميه, الشوفونيه , االبعثيه, او الاسلاميه او