عقد في القرون الوسطى تحالف مصيري بين الأباطرة والباباوات وتم تسييس الدين وتوظيفه لأهداف السياسة لضمان حماية الثروة والنفوذ وإحكام الهيمنة على عقول الجموع مسلوبة الإرادة وتفاقمت عندئذ حملات الكنيسة على المفكرين بتعذيبهم وحرقهم والاستيلاء على ممتلكاتهم بحجة هرطقتهم وزندقتهم وتواصلت حملات حرق الغنوصيين والاريانيين والمانويين وبعض المسيحيين الذين تجرأوا وناقشوا موضوع الخير والشر والإله الرحيم واعتبر البابا "اينوتشينسو الثالث" أن " المهرطقين أشد خطرا من الكفار" وهو الشعار ذاته الذي ترفعه القاعدة وداعش في شنها للحروب ذات القناع الديني على من يختلف معها وقد سبقتها اليه ادعاءات الكهنوت والحملات الصليبية على المشرق.
في مواجهة هيمنة الكهنة وتسييس الكنيسة وتسييرها للحكام والأباطرة باعتبارهم مخولين من السماء لممارسة السلطة المطلقة وقف كثير من المسيحيين ضد تلك الهيمنة وناهضوها فحصلت تمردات في إسبانيا وجنوب فرنسا لكن الجيوش الصليبية المتحالفة حسمت الأمر واجتاحت المدن ومنها مدينة بيزيير الفرنسية سنة 1209 وسجل مؤرخو الحملة سؤال احد قادة الجيش الصليبي لمندوب البابا في الحرب " كيف بوسعنا في المدينة المفتوحة ان نتعرف على الكاثوليك الصالحين الحقيقيين ونميزهم عن الزنادقة المعارضين ؟" فأجابه مندوب البابا المشهور بتعصبه وهو المصاحب للقائد الصليبي الشهير سيمون دو مونفورت : "اقتلوهم جميعا والرب سيتعرف على أهله."
يبيح أي نوع من التعصب والتشدد إفناء المختلف بحجج متنوعة ولا يتورع المتعصب والمستبد والطاغية عن استخدام جميع الوسائل البشعة والتفسيرات الذرائعية للدين والايديولوجيا والدساتير الوضعية ليفتك بجميع معارضيه حفاظا على سلطته او مكانته المهددة بالزوال فيعمل فتكا بالناس وتدميرا في الأرض.
فقد ادعى المتعصبون الأوروبيون أنهم يرومون تحرير الأماكن المقدسة من الطغيان الإسلامي فكانت الحملات الصليبية عسكرية ذات غطاء ديني في ظاهرها وذات أهداف سياسية واقتصادية في حقيقتها وعلى أساس هدفها الديني المعلن انضمت حشود الفقراء الجياع الطامعين باللقمة والفردوس الى الحملات مثلما يحصل اليوم مع الشباب المحرومين مغسولي الأدمغة ممن ينتمون للقاعدة وداعش مخدوعين بوعود آخروية ورشا دنيوية جنسية - إذ كانت الحملات الصليبية تجند بالقوة مجموعات من البغايا والسبايا للترفيه عن المقاتلين ومن التحق بهم من الشباب الذين فروا من استعباد الإقطاعيين لهم ولكن سرعان ماكانوا يلقون حتوفهم أو يسرق تجار العبيد أفواجا منهم لبيعهم عبيدا على سواحل مصر وتركيا.
استفادت أوروبا ثقافيا من الحضارتين البيزنطية والإسلامية في حملاتها الفاشلة عسكريا ولتجنب المواجهات المتواصلة التي انهكت اقتصادها وجيوشها وعجزها أمام الهيمنة العربية والعثمانية على حوض المتوسط توصل الحكماء من الطرفين الى عقد اتفاقات تعايش وتبادل تجاري وثقافي غير أن اختراقات كثيرة كانت تجري كعمليات القرصنة واخذ الرهائن وسبي النساء، ومقابل ذلك قام العثمانيون وبدهاء ماكر باختيارعدد كبير من المرتدين المسيحيين ( المتحولين الى الإسلام ممن كانوا يعاملون كطبقة أدنى في كنائس بلاد الصرب ) ووضعوهم في أعلى المناصب في الإمبراطورية العثمانية ثم خفتت بالتدريج المواجهة ذات الطابع الديني بعد تدمير القسطنطينية عاصمة بيزنطة تدميرا كاملا في الحملة الصليبية الاخيرة.
فجرت الحرب الصليبية التي بدأت سنة 1095حروبا ممتدة عمقت الهوة بين العالمين الغربي والإسلامي ولكن الأوروبيين - كما يذكر مايكل انجلو ياكوبوتشي في كتابه "أسباب اللاتسامح ومظاهره" وكانوا يعيشون ظلمات القرون الوسطى اغترفوا من الإنجازات المادية التي أنتجتها الحضارة الإسلامية كالرياضيات والكيمياء والفلسفة وتواصل التأثر الثقافي حتى ظهرت ثورة ترف غيرت نمط الحياة لديهم حين تعرفوا الى العطور والتوابل والمنسوجات الثمينة المجلوبة من الشرق.
يتبع
قراءة في استنساخ الحروب الدينية
[post-views]
نشر في: 30 أغسطس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...