أعترف أن الكتابة اليومية في مطبوع مثل (المدى) تتطلب من صاحبها جهداً أكبر من العمل الصحفي اليومي.. فصاحب النافذة اليومية مطلوب منه أن يقدِّم شيئاً يتجاوز ما اطلعت عليه الناس في الأخبار، وشاهدته من خلال الفضائيات، فالعبور إلى جسر الزحمة اليومية للناس يتطلب من صاحب النافذة اليومية أن يسعى كل مساء إلى الاطمئنان على أن العلاقة بينه وبين القارئ لم تدخل في مرحلة"اللامبالاة "وأن الكلمات حاضرة ومؤثرة.. وأن نافذته لا تزال تحمل طعم ومذاق نهاية مائدة عامرة.
في الأيام الماضية تلقيت سيلاً من رسائل الأصدقاء والقرّاء البعض يسأل ومنهم مَن"يلوم"، لأنني توقفت في هذا الوقت بالذات عن كتابة العمود الثامن، مؤكدين أن مساحات الأسى والخراب حولنا لم تنتهِ بانسحاب صاحب خطبة الأربعاء". فالرجل يرفض حتى هذه اللحظات أن يُصدّق أنه أصبح من الماضي، وأنه لا يحمل لقب رئيس مجلس الوزراء.. فلا مجال لمغادرة منصّة الأربعاء الأثيرة.. يرفض القائد العام للجيش والشرطة والهيئات المستقلة والقضاء والحصة التموينية والكهرباء ، أن يراه العراقيون نائباً في البرلمان، أميناً على أصوات مَن انتخبوه.
للأسف أن ما نكتبه ونقوله يعيشه الناس كل يوم، يشعرون به ويتألمون منه، وربما لو أُتيحت لهم فرصة التعبير وامتلكوا ملكة الكتابة لقالوا الكثير مما نقول.
في كل يوم وأنا أتوجه لكتابة العمود الثامن أتذكر حكاية عميد الأدب العربي طه حسين، حين قرر أن يُترجِم إلى العربية كتاب صديقه أندريه جيــد"الباب الضيّق"فبعث برسالة يستأذنه فيها فما كان من أديب فرنسا إلا أن يكتب هذه الكلمات التي لخَّص فيها حالنا نحن الكُتـّاب"أخشى أنّ الأبواب والنوافذ لا فائدة منها في بلدانكم.. مسائل الحرية والمستقبل لا تعني أحداً، فلماذا تعـذِّب نفسَك في حفر الجدار بمِعولٍ من الكلمات"؟
في السنوات الأخيرة لم تعـد القراءة من أولويات الناس، فتجد أن أشهر صحيفة عندنا لا توزّع سوى آلاف قليلة، وأكبر كاتب لا يعرفه أكثر من المحيطين به، و برغم هذا العزوف، فإن الصحف تصرخ وتئــِنّ، غابت عن صفحاتها اللغــة الرقيقة.
في الماضي كنا نقرأ أعمدة صحفية تقطر عذوبةً وإحساساً لرشدي العامل وأبو كاطع وسعود الناصري وسلام خياط مقالات غارقة في نعومة الكلام، في دفئه وشاعريته. كان الجميع متمسكاً برومانسية حالمة في زمن مشحون بالحمم الكتابية، كانت الحداثة في الكتابة وفي كل شيء تغزونا وتخترقنا.
أما اليوم، فلا صوت يعلو فوق صوت الفساد والإرهاب والمحسوبية والرشوة والانتهازية والفوضى السياسية والأمنية وأخطاء الأحزاب واللا أحزاب!
الناس عاشت السنوات الأخيرة في ظلّ ما يُسمّى بدولة القانون فماذا وجدت؟ دولة تضيع فيها الحقوق، دولة يُحمى فيها القتلة، دولة تصنع حروباً وهمية، دولة العدل فيها غائب ومنبوذ، دولة تحشد كل إمكاناتها من أجل مؤتمر عشائري، دولة تنظر لمواطنيها على أنهم أرقام انتخابية.
وأتساءل، كيف يمكن للواحد منّا أن يهرب من كل هذا الذي يحاصره؟ كيف ينعزل ليكتب بعد ذلك كلمات مخادعة؟ كيف للواحد منّا أن يُغازل الكلمات على شواطئ أنهار جفـَّت بسبب تعنّت وطغيان"سياسيّي"دول الجوار؟
وهل لو فعلت ذلك، وانسحبت من وجع الوطن النازف إلى داخل ذاتي، إلى لغة تُرضي أصحاب القرار وتروي عطش الساسة لكلمات المديح، هل أكون خائِناً حين أُلـوِّن الكلمات وأزوّقها في زمن أصبح فيه لون الدم هو الطاغي؟
خيار صعب أن يرى الواحد منّا طريق السعادة، وتخذله قدماه في الوصول إليه ضعفاً أو خوفاً، وفي كلتا الحالتين أنا لست سعيداً بما أنا فيه، وليس أمامي إلا الدعاء على مَـن سرق منّا بهجة الفرح وراحة البال، وأحال أيامنا إلى سلسلة متواصلة من الخطب والأكاذيب، فحرم كلماتنا من أن تكون مصدرَ سعادةٍ وأمــلاً للناس.
آســــــــــــف
[post-views]
نشر في: 3 سبتمبر, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 7
بغداد
ايها الكاتب الرائع ليس هناك في العراق كثيراً منك يمتلك هذا النموذج الراقي من الأخلاق والإحساس والظمير الحي فلا تتوقف عن الكتابة حيث بقاء من أمثالك صامد صمود الجبال الراسخات هو ما يثبت الأمل فينا ان هناك نور مشرق مهما بلغت وعورة أنفاق الظلام . اقسم بالله ا
رمزي الحيدر
أنت شمعة ،في عراقنا المظلم ، لا تبخل علينا !!!..
monsun
قرات تقريبا كل ما كتبته ايها الاخ المثقف الواعي وحيث كنت تمارس التوعية بقلمك الرائع كنت احاول ان افعل ذلك على ارض الواقع مع من اعرفهم من مختلف الانواع واعذرني على كلمة الانواع وكانت النتيجة انى قد نجحت مع اربعة او خمسا نجاحا محدودا ولكن الاخرين ينطبق ع
ابو احمد
الاخ العزيز علي حسين المحترم من على حافة القطب الشمالي ابعث لشخصكم الكريم تحياتي ،كل صباح افتح المدى وأبدا اولا بالعمود الثامن ،غيابك أقلقني خلال الأيام السابقه ،ولااعرف ايميلك او هاتفك كي استفسر ومن أسئل ،بقيت في حيرة من أمري ،الى أن طل القمر وعاد الاطمئ
عمار القطب
كنا ندرس في اعدادية اوائل السبعينيات وكان في الصف طالب يهوى افلام العصابات بل كان يتقمص شخصية القاتل والسارق واحيانا ترنتي الذي لا يتقفاهم ابدا لقد حول هذا سنتنا الدراسية الى معاناة لغاية يوم انتقل أباه الى محافظة اخرى وعشنا حالة من الحرية لم تدم طويل
كاطع جواد
سيدي الفاضل يبقى عمودك اليومي بلسما للكثير حتى وان كانت كلماته حزينة ، لانها صادقة فالكلام الصادق حتى و ان كان مرا و مؤلما فانه يشيع شيء من الفرح في القلوب المكلومه و العيون الدامعة سيدي ان ما يمر به العراق يحزن البعيد قبل القريب ، في هذه الأيام قد لا نجد
علي العراقي
تحياتي وعودة الى مداك الجميل وقرائك وتواصلك الرائع اتمنى التواصل على الخير والعطاء وروح الحقيقة التي تضج مضاجع المفسدين وسياسين الصدفة