لم اكن أعرف الرسامة الفرنسية سيرافين ( 1864- 1942) قبل أن أشاهد الفيلم الذي تناول حياتها . كانت لحظات جميلة وأنا أراها وأرى معالم حياتها تتضح أمامي بعد مشاهدة هذا الفيلم الذي أنتجته فرنسا وبلجيكا معاً ، وقامت بدور سيرافين الممثلة البلجيكية يولاندا مورو وأخرجه الفرنسي مارتن بروفوست ، وقد حصل الفيلم على جوائز عديدة وثناء من الجميع .
هنا لدينا رسامة مختلفة ، رسومها غريبة وحياتها أكثر غرابة . توفيت والدتها وهي في سنتها الأولى وأهملها والدها وهي في السابعة ليرتبط بامرأة أخرى فأجبرتها الظروف في صباها للعمل كراعية للأغنام ، وفي فترة مراهقتها التحقت كنادلة في بيت للراهبات ، ثم بعد سنوات طويلة حصلت على عمل كمنظفة في بيت عائلة من الطبقة المتوسطة وقد ابتدأت الرسم في سن الأربعين حيث اكتشفها جامع اللوحات فيلهلم أوده ذو الأصول الألمانية المعروف بحبه وجمعه للوحات فنانين كبار مثل بيكاسو وبراك ( اشترى أول لوحة من بيكاسو سنة 1905 ) وقد قام ببيع بعض لوحاتها التي عادت عليها ببعض النقود ، هي التي كانت توفر نقوداً قليلةً جداً من عملها في التنظيف لتشتري الألوان وبعض حاجات الرسم الأخرى وأحياناً كانت تصنع الألوان بنفسها من الأعشاب وبطريقة بدائية . ولعدم توفر النقود في الغالب فقد اضطرت في احدى المرات الى أن تسطو ليلاً على المخزن الذي يبيع لها أدوات الرسم لتسرق مجموعة من الألوان وعدة أمتار من الكانفاس وبعض الاشياء الأخرى التي تستعملها في تنفيذ أعمالها .
تنتمي أعمال سيرافين الى المدرسة البدائية في الرسم على غرار مواطنها هنري روسو لكن حياتها أقرب الى حياة فنسنت فان غوخ ، بل هي برأيي تمثل الجانب الأنثوي لفان غوخ حيث الجنون والفاقة وعدم الاعتراف . فبعد أن سوّق لها فيلهلم أوده بضعة أعمال حصل كساد اقتصادي في أوروبا ولم يشتري احد لوحاتها فساءت حالتها المادية والصحية كثيراً وعانت من ذهان مزمن وضعت على أثره في مستشفى للأمراض العقلية وتوقفت عن الرسم حتى توفيت أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا .
كانت سيرافين تعالج لوحاتها بعفوية وجرأة وحرية كبيرة ، تضع قماشاتها على الأرض وتنكب عليها وهي ترسم وبجانبها كأس نبيذ رخيص ، وهي قليلاً ما ترسم بالفرشاة بل كانت أصابعها هي الأداة التي تضع الألوان وتحركها على قماشة الرسم بشكل دائري لتنسج أشكالها الغامضة التي تحيلنا دائماً الى أوراق الأشجار والنباتات الغرائبية ، تنشر أشكالها بطريقة أخّاذة وهي تملأ بها كل سطح اللوحة ماعدا الحافات التي تتركها مفتوحة ، تغلق باب المرسم وتنسجم مع عالمها الوحيد ، تعتزل الناس ولا تفتح الباب لأحد . أنها امرأة من زمن مضى لكن لوحاتها بقيت تحمل كل هذا السحر ، هي التي انتظرت طويلاً من يزيل عنها غبار النسيان ويخفف آثار فجيعتها ومرضها وعزلتها . سيرافين لم تبح بالكثير ولم تتواصل مع ناس عديدين وليس لها أصدقاء ، لها وحدتها وأعمالها والملائكة الذين تتخيلهم يساعدونها في الرسم ، انها تبدو كما لو أنها جاءت من عالم سري بعيد ، عالم غير مادي .
حتى المصورة التي أرادت أن تصور لها صورتها الوحيدة وهي بجانب لوحتها سألتها باستغراب ( لماذا تنظرين الى الأعلى ؟ أنظري أليّ كي أصورك بشكل جيد ومناسب ) فردت عليها سيرافين ( أنا أنظر الى الملائكة ، هؤلاء هم أصدقائي وهم الذين يساعدونني دائماً في الرسم ويمنحونني هذه الأشكال ) . هكذا مضت رسامتنا الساحرة الفقيرة وبقيت أعمالها التي تحتضنها الآن متاحف كثيرة ومهمة مثل متحف مايول في باريس ومتحف شارلوتا زاندر في بونخهايم ومتحف الفن البدائي في نيس ومتحف الفن الحديث في ليل وغيرها الكثير.
الرسامة التي زارتها الملائكة في مرسمها
[post-views]
نشر في: 5 سبتمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...