بعد سطوة الفن المفاهيمي البالغِ الجفاف، الذي أخرج لوحةَ الفن التشكيلي من إطارها ومن ألوانها على مدى الخمسين سنة الماضية، يبدو معرض "صناعة ألوان"، في المتحف الوطني للفن، محاولةً لاستعادة عافية فن الرسم، وقد غمرته الموجة الذهنية التي لا تنتسب إليه. ففن الرسم التشكيلي، بأبسط مفاهيمه هو: صفحة تتسع لفاعليات الخط واللون الجمالية غير المحدودة. وهو وليد حاجة غريزية ولدتْ في الانسان مع ولادته. الفن المفاهيمي، أو أي فن خارج إطار تلك الصفحة وخطوطها وألوانها، لا يصح أن يُسمى فناً تشكيلياً، أو يحل محل الفن التشكيلي باسم التجديد. بل هو فن جديد يستحق أن يكون له الاسم الدال عليه.
المعرض الجديد الذي يشبه درساً في الألوان، إنما يؤكد يقظةَ الجوهر الحيِّ في الفن التشكيلي عبر الألوان. يلاحق عدداً من الألوان الأساسية إلى مصادرها في الطبيعة، أو في الصناعة.
في مقدمةِ هذه الألوان يتصدر اللون الأزرقُ بالغُ الصفاء والعمق. وهو، كما نعرف من المعرض، لا يتسع لكل أزرق. فهناك أنواعُ أزرقٍ مصنوعةٌ ومُستجدة، عرضةٌ لتغير الدرجة أو اللون برمته بفعل عامل الزمن. ولكن الأزرق الأصيل الذي لا يشحب كان، منذ أيام الفراعنة، يُجلب من مناطق بعينها في أفغانستان، تبعد 300 ميل عن العاصمة كابول. حجر ياقوتي كان ترابه بعد أن يُسحق يزين حاجب توت عنخ آمون، كما زين معظمَ جلابيب السيدة العذراء، في لوحات رسامي عصر النهضة وما بعده. فهو لون سام، بفعل عمقه وغلاء ثمنه أيضاً.
يبدأ المعرض مع العصر الوسيط، حين كانت باليت الرسام محدودةً بفعل ندرة مصادر تمويل الأصباغ. فالفنانون عاجزون في سعيهم للتطابق مع العالم المرئي الذي يرون من حولهم. ولكن مع نمو ميلهم، في مرحلة عصر النهضة، إلى الواقعية نمت إمكانات الحصول على مزيد من الألوان. كانت مدينة فينيس آنذاك إحدى أهم مراكز التجارة التي بدأت توفر، ولأول مرة، مزيداً من الألوان من الشرق البعيد، الأزرق الياقوتي والأصفر خاصة. الألوان التي منحت فنانين مثل "تِشِن" الفرصة لإظهار براعتهم. في الفترة ذاتها، يخبرنا المعرض، بأن الزيت احتل مكان بياض البيض كعنصر لازم في خلطة الصبغة، فهو أغنى وأكثر لمعاناً في التأثير، ويجف بصورة أبطأ، الأمر الذي يمنح الفنانين وقتاً كافياً لخلط المواد السائلة.
نُظم المعرض بصورة حيوية، حيث استقلت كل قاعة بلون محدد. الأمر الذي سيمنح المشاهد فرصةَ المقارنة بين الفنانين في استخدامهم للون واحد، عبر العصور. لعدة قرون ظل اللون الأزرق الأكثرُ صفاءً، والأعمق، والأغلى ثمناً هو الياقوتي، المستخرج من حجر أفغاني. ثم جاء البديل الأوروبي اللازوردي، الأرخص ثمناً، الذي يشف عن اخضرار. بقايا الأنواع لهذا اللون عادة ما تكون معرضة للتلاشي مع الزمن.
التغيير الأكبر حدث في مطلع القرن الثامن عشر، مع تطور الأزرق البروسي من صبغة صناعية، لا تعتمد على حجر طبيعي. كما تطور البرتقالي من صبغة معدنية عادة ما كانت سامة، تُستخدم لتسميم السهام عند الحرب، وتسميم الفئران.
جولة المعرض تفتح وعي المشاهد على معلومات مفاجئة، لعل أهمها أن معظم اللوحات الشهيرة التي اعتدنا رؤيتها في المعارض الجوالة، والمتاحف الثابتة ليست هي اللوحات ذاتها كما أبدعها الرسام في حينها. هناك ألوان كالأحمر والأزرق والأصفر، وهي الألوان الأساسية، كما نعرف، قد شحبت وتحولت إلى ألوان مغايرة تماماً. فالصفحة الحريرية في لوحة الاسباني فيلاثكويث الشهيرة "فينوس ريكبي"، تحولت من اللون الأرجواني الغني إلى أخضر رقيق، واللون الأحمر الذي استخدمه فيلاثكويث آنذاك قد فسَد وأفسد الأزرق معه. كذلك نعرف أن الفنانين، ولعدم توفر صبغة الأخضر منفردة، كانوا يعتمدون توليدها من الأزرق والأصفر. وإن الأزرق والبرتقالي لونان مكملان لبعض، ويعزز أحدهما الآخر حين يتجاوران، وكيف انتفع الانطباعيون من ذلك.
في اللون
[post-views]
نشر في: 14 سبتمبر, 2014: 09:01 م