2-3
كان نجيب محفوظ كاتباً ديموقراطياً بإمتيازولا أظن أن كاتباً عربياً نجح بالسير على خطاه، إستثناءات قليلة ربما لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد فالذين جاءوا بعده حتى أولئك الذين إشتهرت أسماؤهم لاحقاً، جلبت اهتماماتهم السياسية الشهرة لهم، أكثر مما فعلته كتاباتهم الأدبية. يمكنني أن أحصي قائمة بعشرات الكتّاب العرب سواء الذين عاصر بعضهم محفوظ أو الذين بدأوا بالكتابة لاحقاً، الدخول إلى السجن أو الإنتماء إلى حزب أو خدمة سلطة "ثورية" معينةلم يصنع منهم روائيين عظام بالضرورة! ربما جعلهم يشتهرون، لكن الشهرة شيء، وبقاء العمل الروائي شيئاً آخر، الإنحياز الأيديولوجي، والترويج للسلطة وخدمة الديكتاتورية يقودون الرواية إلى تخوم حتفها. عشرات الروايات "الثورية" التي كُتبت والتي حصدت مديحاً "نقدياً" تجاوز عدد صفحات جينيسيس، إنتهت إلى طي النسيان يتحدث عنها نقاد منسيون هم الآخرين، على عكس روايات محفوظ، لا أريد أن اقول أنها روايات معاصرة لكنها روايات كلاسيكية شأنها الروايات الكلاسيكية العالمية الأخرى.لا أظن أن روائياً شاباً فرنسياً يريد أن يكتب رواية عظيمة دون أن يكون قرأ بلزاك أو ستاندال أو زولا أو فلوبير قبل ذلك. نفس الشيء يصح على كاتب شاب روسي أو إنكليزي أو أميركي. فبدون قراءة غوغول وتورجينيف ودوستويفسكي وتولستوي بالنسبة للروسي، وشكسبير وتشارليز ديكينز بالنسبة للإنكليزي، وأدغار آلان بو وهيرمان ميلفيل بالنسبة للأميركي، لن يصلوا إلى كتابة أدب عظيم. فلكي يسير المرء قدماً لابد له وأن يطلع على ما فعله السالفون، اساتذة الرويّ الكلاسيكيين قبله. في حالة الروائي العربي المبتديء ليس هناك أمامه غير محفوظ، أنه الكاتب الكلاسيكي بلا منازع. ليس ذلك وحسب بل يتعلم منه كتابة الرواية بكل ما تحمله من تعدد بالاصوات، الرواية بصفتها برلماناً تتحرك فيها الشخوص بحريتها في مجتمعات حُكم عليها بالعيش تحت ظلام الديكتاتورية، الرواية بصفتها بانوراما كاملة لتفاصيل يومية لا يمكن العثور عليها في كتب علم الإجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس......وغيرها من العلوم التي هي شحيحة إن لم تكن غريبة على البلدان العربية أصلاً (كأن على الروائي وحده وقعت مهمة النيابة عن العلوم هذه جميعاً).فمن غيره نجيب محفوظ إمتلأت رواياته بشعب كامل: الفقراء إلى جانب الأغنياء، ربات البيوت إلى جانب المتعلمات، العاهرات إلى جانب القوادين، الشرطة إلى جانب المخبرين، الجنسيون المثليون إلى جانب السحاقيات، أخوان المسلمين إلى جانب الشيوعيين، القوميون إلى جانب الكوزموبوليتيين، المؤمنون إلى جانب الملحدين، (فقط المؤسسة العسكرية لم يقترب منها محفوظ!).
نجيب محفوظ فهم منذ شروعه بالكتابة، فهم الرواية بصفتها المجال الديموقراطي الذي لا يعلو فيها صوت على الصوت الإنساني، أما نقاشاته على صفحات مجلة الرسالة في نهاية سنوات الثلاثينات هي الحجر الأساس الذي إعتمد عليه في بناء خصوصيته الروائية "الديموقراطية" وهذا ما جعل الكاتب المصري أحمد عباس العقاد(العقاد الذي للأسف يُصنف جهلاً وإهانة للأدب العربي، بصفته "عميد الأدب العربي"!)، ينتبه آنذاك لخطر التوجه الجديد للشاب محفوظ، ليحذر من خطر كتابة الرواية عامة لأنها حسب وجهة نظره تجسد إنحطاطاً للأدب والثقافةمثلها مثل كل أصناف النثر الأخرى. النثر بالنسبة للعقاد هو نزول إلى ذوق العامّة، على عكس الشعر الذي هو تعبير عن رقي المجتمع بعرفه ولكي يثبت نظريته في هجومه على الرواية وعلى محفوظ بالذاتكتبفي إحدى أكثر مقالاته سذاجة وديموغاجية، "أنظرواكيف تآمر البلاشفة على العالم عن طريق روائييهم أمثال بوشكين وغوغول وجعلوا العامة والغوغاء أبطالاً لكتاباتهم"، ولم يعرف أن الإثنين وُلدا وماتا قبل الثورة الروسية بعقود وأن بوشكين شاعر أصلاً!
يتبع
عن نجيب محفوظ مرة أخرى
[post-views]
نشر في: 16 سبتمبر, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
صالح الرزوق
لمحفوظ بداية و نهاية و هي تدور محوريا حول سلك الشرطة و هيمنة العائلات الارستقراطية من بكوات و باشوات عليه. و له قصة واحدة عن تورط عبدالناصر في الحرب الأهلية اليمنية. و لكنه عموما كان كاتب مدينة و هذا يعني انه بعيد تماما عن المهاجرين من الريف و هم عماد الج