بسوق الجمعة في البصرة- سوق الكتب القديمة والخردوات، حيث يجلس باعة السمك المجفف مع باعة البرسيم إلى جنب الكتبة والوراقين، وفي ضحى يوم ماطر من العام 1982، التقيت حسين عبد اللطيف، الشاعر، مع ابنه حازم، كان وحل السوق لما يزل عالقا بأحذيتهما، اوقفته مصافحا ًومسلّما عليه، معترفا به شاعرا كبيراً، لا لأني قراتُ كتابه الأول(على الطرقات أرقب المارة) لكني كنت قد قرأت له قصيدة بعنوان (ازهرار) منشورة في جريدة الجمهورية، وقد أعجبني الاشتقاق الجميل هذا، كما ان القصيدة كانت واحدة من جميل شعره، الذي يمتنع ويسهل في نسق وتراص وترادف لغوي فريد، لا يأتي به إلا شاعر كبير، اسمه حسين عبد اللطيف.
وإذا كان للشعر خلّصاً ومخلَصين حدَّ التفاني والهلاك فقد تقدمهم حسين عبد اللطيف بكثير، لأنه ظل مسكونا به، مفرِّطا بالكثير مما سعينا نحن إليه، ولعل سكنة الدائم جوار الآخرين وتنقله من بيت إلى بيت، من محلة إلى أخرى، بين ولادته في بغداد إلى سكنه المؤقت في محلة السيمر فالمؤقت أيضاً في الخليلية بالبصرة القديمة إلى محلات أخر، في شبه تشرد أبدي حتى في مستأجره الأخير الذي توفي فيه، بحي الأصدقاء، في رحلة لم يتمكن خلالها من بناء أو شراء دار له. مجاورته الجدران المرتبكة لم تخلق منه إلا إنساناً مشرقاً بالحياة، مأخوذا بصداقة من حوله، محباً للجميع، واثقا من أن الشعر خلاص للناس أكيد، في انسجام عجيب غريب مع الذات الشاعرة، التي صنعت منه واحداً من كبار الشعراء(الجوالين)الذين شكلت المقهى جزءاً حيويا من تجربتهم، فقد أعياني وانا أراه يكتب قصائده على مساند أرائكها القديمة، أيام كنا جلساءَه في مقهى الشناشيل بالبصرة القديمة ومن قبل في مقهى ام السباع ومن بعد ذلك في مقهى باعة الجبن، الكائنة في باب الزبير أيام كنا هاربين من القصف المدفعي الذي كان يطال البصرة من إيران.
كان لوركا واحداً من اصدقاء حسين عبد اللطيف وكذلك نيرودا لكنه مع إليوت وفوكنر كان اكثر انسجاماً، هو ابن مدينة كبيرة، متحصن بمدنية واضحة، سخياً على قِصر وضيق يده، وحين يمكننا ان نتحدث عن شعرة سنقول بان البناء الفولكلوري العالي والتشبع بأغاني الاغتراب والبحر ومواسم الحنين ورقصات الزنوج التي كان يشاهدها في حلقة الصوفية داخل مكيد وضريح الولي عز الدين باش أعيان، مع الروح الايليوتية البرمة من كل ما حولها، التي أنتجت لنا الأرض الخراب وجي بروفروك وأربعاء الرماد، مع جهد لوني ومعرفة قرائية عميقة بما يجب أن يكون عليه الشعر، خلقت لنا شاعراً متميزاً، ذا تجربة لا تشبهها اي تجربة عراقية. وما ذلك بالغريب على واحد لم ينتظم يوما في حلقة حزبية، ولم ينتم لناد أو صالون أدبي في مرحلة كان قد أنجذب لها معظم أبناء جيله، وهكذا ظل قوياً، خارج الأطر القوية التي كانت تجتذبه فيرفض. نعم كان حسين عبد اللطيف الشاعر ابن مدينة متحضرة، لم أسمع منه أنه من قبيلة ما، وما تعرفنا على أبناء عمومة له، وسوى من ثلة من أصدقائه شعراء ورسامين وكتاب وصحفيين ما كان ليعرف أحداً، لذا لا نجد أثراً للريف او البداوة في شعره، كانت المدينة حاضرة بتضييقها على روحه، ببرمه من الوجود المضطرب للأشياء، بجملة الفجائع التي ما انفكت تلتهم جانبه الآمن.
أن نتحدث عن حسين عبداللطيف، الشاعر أمر في غاية البلاهة، هو الذي لو شاء لتحدث عنا بيسر ودراية، يعرفنا اكثر مما يعرف نفسه. لأنه فاحص نصوص شعراء مدينته، المحب لها، الفرح بها. في مطالع أيامنا الشعرية كنا نأتمنه على نصوصنا، يقرأ ويحذف ويضيف، وكنتُ أعجب من قراءته السريعة وملاحظاته الآنية، كان يمسك بالورقة فيضع إصبعه على كلمات فيها ويقول لو حذفنا المقطع هذا، لو قدمناه على سابقه، لو ابدلنا المفردة هذه لكانت القصيدة أجمل وأدق وأكثر جدة. كانت ملاحظات إزرا باوند على الأرض الخراب قائمة في تفكيره وذائقته. نعم، كان يحرك ابيات القصيدة مثلما يحرك الرسام فرشاته على قماشة الألوان، وفي كل لطخة تبدو اللوحة اكثر بهاء. هل حذف حسين عبد اللطيف من شعرنا البصري أكثر مما حذفه باوند من قصيدة اليوت ؟ ربما. لكن، الأكيد انه سيحذف الكثير من أفراحنا بغيابه الطويل هذا.
بعد صراعه المرير مع مرض السكري ومع قاطرة الألم التي كانت تتفلت عجلاتها داخل روحه عُقيب فقده لأبنه البكر حازم، ظل حسين عبد اللطيف ممسكاً بلحظة وجوده كشاعر حقيقي، حالماً بيوم اجمل، أبهى يخلصه من كل ما كان يعاني منه، لكن خطى الموت كانت اسبق له من حلمه، وفي لحظة خائنة، غادرة أسقط لعبة الصبر من يده لنجده الوحيد في عزاء نفسه.
الوحيد في عزاء نفسه
[post-views]
نشر في: 16 سبتمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...